«إننا ننشر اليوم هذا الكتاب بفخر ومحبة، ونحن ندرك كلّ الإدراك أننا نحرس وندير تراثاً متروكاً للجميع» بهذه العبارة تختتم الملاحظة التي كتبها الناشر الإيطالي كارلو فلترينيلي، وزوجة تابوكي، ماريا خوسيه دي لانكستر حول رواية «إيزابيل» (2013) للروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي (1943 ـ 2012) وقد نشرت بعد وفاته، قبل أن تنقل أخيراً إلى العربية (دار الساقي ـ بيروت 2016 ـ ترجمة نبيل رضا المهايني). تذكر الملاحظة أنّ صاحب «بيريرا يدعي» كتب عمله هذا خلال سنوات عديدة، وتحدث عنه بثقة خلال العديد من المقابلات، وسمّاه نصاً خيالياً «رواية غريبة، ومخلوقاً غريباً كمستحاثة غريبة الشكل بقيت متعثرة داخل صخرة».
رواية عن البرتغال بعد انتهاء حقبة الديكتاتورية
منذ صياغته للإهداء، على الصفحة الأولى من الكتاب، يضع تابوكي قارئه أمام فرضية الغرابة التي وصف بها روايته، جاعلاً من «الماندالا» المدخل لقراءة الحكاية. وبذلك يعود صاحب «هذيان» للتأكيد على انشغاله بفكرة الأرواح المتعددة، والميتافيزيقيا. يبني روايته وفق دوائر الماندالا، التي تعمل كلّ دائرة منها على نقل الحكاية إلى دائرة أخرى، على هيئة سلسلة متتابعة تسعى للوصول إلى المركز (يمثّل في الثقافة الهندية مركز الكون الميتافيزيقي) حيث الحقيقة. لا تختلف «إيزابيل» عن أعمال تابوكي السابقة من حيث قدرتها على المزج، حدّ التماهي، بين الواقعي والمتخيل. صاحب «تريستانو يحتضر» رأى على الدوام أن الحياة لا تقتصر فقط على ما نعيشه، بل تتعدى ذلك لتكون في مكان ما كثافة حيوات كثيرة، ما يجعل الزمان والمكان مفهومين قابلين للتبدل بعيداً عن منطق الحياة المجردة. من هنا نجد تاديوس، راوي «إيزابيل»، ينتقل من دائرة إلى أخرى، في رحلة بحثه عن حقيقة موت إيزابيل، صديقته القديمة، مجتازاً أمكنة وأزمنة لا يربطها إلى الواقع غير يقينه بأن اجتيازه للدوائر سيوصله للحقيقة.
من حيث الشكل، يبني تابوكي روايته استناداً لنظرية الماندالا، مقسماً إياها إلى تسع دوائر تضيق تدريجياً باتجاه المركز، بما يتشابه إلى حدّ ما مع بناء الرواية البوليسية. تتكشّف ملابسات الوقائع تدريجياً، ما يتيح حيزاً كبيراً للتشويق، من دون السهو عن العمق الذي سعى تابوكي في مختلف أعماله لسبر أغواره.
قارئ فيرناندو بيسووا، ومترجمه إلى الإيطالية، الذي قرر تعلّم اللغة البرتغالية حين أسره سحر بيسووا، ليغدو مدرساً للغة والأدب البرتغاليين، يختار البرتغال مسرحاً لأحداث روايته. يصلها تاديوس بحثاً عن حقيقة موت إيزابيل، بعدما قرأ خبر وفاتها في الصحف. من دون الحاجة إلى أي تمهيد، يضع تابوكي قارئه في خضم الحدث، فحين يكون الحلم جسد الواقع تنتفي الحاجة إلى الزمان المنطقي، وهو ما يتيح لتاديوس المضي في رحلة بحثه بحريّة من يتحرك في الحلم. هي البرتغال بعد انتهاء حقبة الديكتاتورية، التي فرضها سالازار على مدى 40 عاماً، غير أنّ إيزابيل، المناضلة الشيوعية زمن الديكتاتورية قضت، بحسب الخبر الصحافي، منتحرة في سجنها، وهو ما يحتاج تاديوس الى التأكد منه، ومعرفة ملابساته، رغم أنه لن يعرّف بنفسه بأكثر من صديق قديم لإيزابيل، الأمر الذي يتواطأ تابوكي معه ويكتفي به طيلة السرد. بين مونيكا، صديقة إيزابيل، في لشبونة، التي تفتتح دوائر البحث باستعادة ذكريات قديمة، تتداعى إلى حدّ التشكيك بحادثة الموت، وصولاً إلى محطة الرفييرا، حيث يجلس تاديوس إلى جوار ماتيو، عازف الكمان، ليسمع منه أنّ «الماضي البعيد، الماضي القريب، الحاضر، المستقبل، أستميحك العذر لكني لا أعرف الأزمان، لا أعرف الزمن، كلّ الأشياء متساوية بالنسبة لي»، يروي تابوكي تفاصيل حقبة مهمّة من تاريخ البرتغال، من دون أن يكتب رواية تاريخية، ومكتفياً بالسياسة خلفية لحدث سيتحوّل رويداً رويداً إلى نظّارة توضح للقارئ كيف يكون الإنسان انعكاساً لكلّ مفردات الحياة، وكيف يمكن للموت ألا يكون نهاية. بخفّة شعريّة النثر الممزوج بالفلسفة، يمكن لإيزابيل أن تكون ماغدا، الطالبة التي اعتقلت من الجامعة، وانتحرت في السجن عبر ابتلاعها كميات من الزجاج المكسور، كما يمكن أن تكون فتاة أخرى استمدت بقايا حياتها من الموت. غير أنّ كلّ تلك الفلسفة والأجواء الميتافيزيقية لن تكون غير المعنى الحقيقي للحياة، الذي ستضيق دوائر تابوكي التسع حتى الوصول إليه حين سيسمع تاديوس لمرة أخيرة صوت إيزابيل وهي تقول له: «وداعاً يا تاديوس، هذه المرة الأخيرة، لن نجتمع ثانية بكل تأكيد. وداعاً».
«إيزابيل» التي وصفتها صحيفة «لومند» بأنها «هدية رائعة وغير متوقعة» تعتبر واحدة من روائع تابوكي، التي تغلق الدائرة على إبداعات واحد من أبرز روائيي العصر، اعتبر السرد وسيلتنا لفهم من نكون وما نريد، طالما الحياة برمّتها عصيّة على الفهم.