أنيس الرافعي واحد من أهم نُسّاك القصة القصيرة في المغرب وفي العالم العربي. يكتب القصة القصيرة ولا يبغي عنها بديلا، في زمن صار ينحو فيه الجميع إلى كتابة الرواية لما تلاقيه – ربما – من احتفاءات ومتابعات وجوائز. يصفونه بالكاتب المجرب والكاتب التجريبي، لكنه ينفي عن نفسه هذه التهمة الخطيرة كل مرة، ماسحاً الأدلة بأدلة جديدة لم يكتشفها المحققون بعد. يقول إن الكاتب التجريبي هو الكاتب الذي لا يقول أبداً عن نفسه إنه كاتب تجريبي. هكذا يظل مجرّباً بالنفي، منفلتاً من شراك الأسئلة والأجوبة، تاركاً كل مرة تجريبه خلفه، باحثاً عن تجريب جديد لن نستطيع الحديث عنه قبل تحققه، وبعد تحققه يكون قد فات الأوان للحديث عنه باعتباره تجريباً. إنه كاتب كشّافة في زمن انتهت فيه الأراضي غير المكتشفة، لا يتعب من البحث المستمر والمغامرة الجريئة في تضاريس مجهولة للسرد، بعيداً عن أرض الحكاية المعهودة. مخاطراً باللغة بقلب لا يأتيه الوجل، محولاً الكلمات والحروف والشخوص إلى نظائر وأشباح، وحافات الأوراق والقصص إلى حافات جليدية قارصة وأجراف قصيّة ذات مورفولوجية مهجورة لا يصل إليها القارئ العادي إلا لماما. أنيس الرافعي أحد أهم مهندسي القصة بامتياز، المنفتحة على ممكنات ولا ممكنات السرد المحيّن وآفاقه المخبرية الجديدة المسلحة بالمعرفة وسعة الاطلاع والتجاوز، الواعدة بعالم آخر للقص يسود فيه الذكاء والهندسة والصمت والقلق الوجودي الحاد والعزلة والمتاهات والسحر الجمالي الأسود والمعادلات اللغوية الرياضية المعقدة والفيزياء والكيمياء عوض الخيمياء. هو من بين مؤسسي جماعة «الغاضبون الجدد»، وحلقة «الكوليزيوم القصصي». صاحب «فضائح فوق كل الشبهات» (قصص مشتركة 1999)، «أشياء تمر دون أن تحدث فعلا» (تمارين قصصية 2002)، «السيد ريباخا» (تعاقبات قصصية 2004)، «البرشمان» (ملاحظات قصصية 2006)، «علبة الباندورا» (متتاليات ما بعد سردية 2007)، «ثقل الفراشة فوق سطح الجرس» (قصص مينيمالية 2008)، «اعتقال الغابة في زجاجة» (قصص صوتية ومراجع بصرية للتفاعل النصي 2009)، «الشركة المغربية لنقل الأموات» (طقس قصصي في أربع «عادات» وسبع «محلات »2011)، «أريج البستان في تصاريف العميان» (دليل حكائي متخيل 2013)، ثم «مصحة الدمى» (فوتوغرام حكائي 2015). حصل على جائزة «غوتنبرغ» وجائزة «أكيودي». ترجمت قصصه للغات عديدة ونالت أعماله وما زالت تنال اهتماماً كبيراً وحفاوةً من النقاد والمتخصصين على الصعيد المغربي والعربي. أنيس الرافعي القاص المتمرد على القديم وعلى الجديد كان لنا معه هذا الحوار:
■ بعد كل هذه السنوات من الكتابة والتبشير بعالم قصصي وسردي جديد، منذ قصصك الأولى (المنشورة) المشتركة «فضائح فوق كل الشبهات» ( 1999)، حتى «مصحة الدمى» ( 2015)، بعد كل هذا الأثر عبر هذا المسار الإبداعي الحافل، هل أصبح اليوم أنيس الرافعي - رغما عنه - صاحب عقيدة وطريقة قصصية في التجريب يمكن لبعض المريدين اتباعها؟
ــــ لنتفق منذ البداية عزيزي محمد أنّ هذا الكلام مبالغ فيه وأكبر بكثير من حجمي الحقيقي. ما زلت قيد التعلم، أحبو وأتعثر، وما فتئت لحد الآن أخاف من أن ينعتني أحدهم بصفة «كاتب» أو «قاص». مثل هذه الخزعبلات من قبيل «مريدين» أنا من أشد الناس كراهية ومقتاً لها. إذْ لا معنى لأن يكون الكاتب ذيلاً نحيلاً لسحلية، وهو بمقدوره أن يكون تنيناً مكتمل الملامح. المريدون مجرد عبيد لما هو لامع لا يبرعون في أي شيء، بل إنهم لا يبرعون حتى في الولاء. ألبير كامي كان بليغاً حين قال: «لا تمش أمامي، فربما لن أتبعك. لا تمش ورائي، فلربما لن أقودك. سر فقط بجانبي وكن صديقي». صحيح أنني أعتبر القصة عقيدة جمالية خاصة بي، انطلاقاً من وشائج روحية وفلسفية عميقة تربطني بهذا الفن الإشراقي الزاهد، هذا «الفن الرخامي الذي يشتغل ضد عقارب الساعة» كما يعمّده خوليو كورتاثار، لكن هذا لا يعني بأنني أطمح لتربية أتباع أو جعلهم ينتهجون سمتي في الكتابة. هذه المماثلة البئيسة لن تجدي في شيء، كما أن تكاليفها الصحية والنفسية باهظة. فليس لي لا الطاقة ولا المزاج ولا الوقت لتحمل الأضرار الجانبية ﻟ «داء الأحبة» كما يسميه صديقي الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري. علاوة على هذا، لقد كنت دائماً من المؤمنين بالمصير الفردي للكتابة، وبأن الكاتب «الكبير» أو «المشهور» أو «الشعبوي» لا يهمه أن يرعى المواهب الناشئة ويذلل لها صعوبات الدخول إلى إمبراطورية الأدب التي هو سيدها، بقدر ما يهمه «استعمالها» كدروع بشرية لحماية إمبراطوريته من الغرماء، أو مواد بناء لتوسيع تخوم هذه الإمبراطورية متفاقمة النرجسية. لنقل- إذا شئت - إني مبشر بلا كنيسة. وحتى إذا ما أقدم بعض «العباد» في غفلة مني على تشييد الهيكل، عدت تحت جنح الظلام لأضرم اللّهب في كلّ شيء. وليرحم الله الضحايا!
أعتقد أن مردّ تراجع القصة القصيرة أمام الرواية مرتبط بكتابها أنفسهم، الذين لم يستطيعوا الخروج من دائرة «الأقلية الأدبية»

■ مؤخراً سهرت على إعداد وتنسيق ملف عن القصة العربية الجديدة لاقى تتبعاً واسعاً وضم أكثر من 200 كاتب وكاتبة من العالم العربي، بعنوان: «راهن القصة العربية: أصوات القصة العربية الجديدة». ما هي المعايير التي اتخذتها لانتقاء القصص وقصاصيها؟ وكيف ترى راهن القصة العربية اليوم؟ هل تجاوز مأزق السرد التقليدي والأصولية السردية إلى سرد جديد؟ وهل هذا السرد الجديد خال من أية مآزق؟
ـــ هي رغبة قديمة طالما راودتني لانجاز ملف موسع كهذا. لم تكن لي معايير محددة أو صارمة أو جيلية (نسبة الى «الجيل») سوى ذائقتي الشخصية وتتبعي «العاشق» لهذه التجارب ولما تصوغه من جماليات نوعية منذ سنوات خلت على صعيد التقنية واللغة والمعمار والتشخيص والرؤية والتخييل. الفن القصصي العربي اليوم أرخبيل متشظٍّ، لكنه بمنجى من «الوثنية السعيدة» التي خلقتها الرواية، حيث القلوب مفتونة والأعطيات وفيرة. إن من يكتبون القصة الآن من الفضلاء المستغنين، لا تقودهم الحماسة المندفعة لتقديم القرابين الهزيلة لإله الوثنية السعيدة، كما أنهم لا ينتجون أعمالاً متعجلة ضامرة سوف يأكلها النسيان سريعاً. لم تصبهم - لحسن الحظ - هاته العدوى المسعورة ولم يسقطوا عمودياً ضحية لهذا المطب المرتهن ﻟ «سوق الاستعراض الأدبي» ولسد «خصاصة الكاتب العربي الفقير»، بل استطاعوا مدججين ﺒ«هوس الإتقان» ومتسلحين بأخلاقيات المسؤولية والنزاهة الإبداعيين، أن يغلقوا فوهة القبعة لمدة معقولة، قبل أن يحرروا عصافيرهم، ما كفل لها جسماً متيناً وهيكلاً رشيقاً وريشاً لماعاً وأجنحة قوية ستخول له من دون ريب الطيران إلى آفاق فسيحة وأمداء بعيدة. ففي تقديري الذاتي المتواضع، عما قريب سوف تستيقظ وتنشط القصة العربية الجديدة كما البراكين الخامدة. إذ هي فن صبور يعيش طويلاً في الشظف ولا يبدي أدنى علامة على الشيخوخة أو الضعف أو اليأس. وحتى إذا ما دار أو جار عليه الزمان توارى فحسب عن الأنظار وبقي غير مرئي لفترة مديدة في حالة «بيات شتوي»، يواصل عمله مغفل الاسم وبصورة غير مباشرة. إنه شبيه إلى حد بعيد بأسرة الأنهار العريقة التي تنشف عندما تهجرها الأمواه، لكن تجد أمارات حدودها المرسومة في كل وقت. فمجرى الماء القديم يظل ماء الحياة يجري فيه عشرات الأعوام، وهو يحفر لنفسه قناة عميقة. كلما طال جريه فيه أصبح أكثر احتمالاً لأن يعود إلى مجراه العتيق، عاجلاً أو آجلاً. هذا لأن القصة «فن يسير في الماضي»، بخلاف الرواية التي هي «فن يسير في الحاضر». فالنهر الدافق الذي سد مجراه عادة يجري في قناته الأصلية. والحاجز لن يدوم إلى الأبد، بل هي استراتيجية نكوصية من أجل وثبة صحيحة، والماء سوف ينط مجدداً من فوق الحاجز الحاجب.

■ بعد «الشركة المغربية لنقل الأموات» التي كانت أقل تجريبية مقارنة بأعمالك السابقة، جاءت «مصحة الدمى»، أكثر تجريبية إلى حد محير، وكعادتك، لم توصّفها بقصص قصيرة أو مجموعة قصصية بل بثيمة غير معتادة: «فوتوغرام – حكائي». كيف جاءت هذه الفكرة؟ وكيف تعرف لنا هذه التجربة وهذا الكتاب غير المألوف لدى القارئ العربي شكلاً وموضوعاً عن الدمى وعن حيواتها؟
ـــ لست من أنصار «المجموعة القصصية»، بل أنا مع فكرة «الكتاب القصصي» باعتباره صنعة وحرفة وكدحاً وتصوراً مسبقاً. كما أني من مشايعي قصة المعرفة والبحث، لا قصة الفطرة والبوح. أعد نفسي صاحب أضابير وسجلات وملفات معدة سلفاً قبل استهلال الكتابة، ثم أعمد في ما بعد لاستضمار واستبطان ومزج و تضفير وتحبيك وتحكيك ما ضمته «علبة الخياط» ضمن النسيج التخييلي للكتاب القصصي من مرجعيات وحدوس. ذات يوم، سأل أحدهم الأديب الايطالي أنطونيو تابوكي: «كيف تكتب؟»، فرد عليه: «لا أعلم، أنا مثل النجار أشتغل فقط، لكن يكفي أن تنظر أسفل طاولتي، وترى حجم النشارة». تلك كناية مفيدة عن جهد التصييغ ومكابدات الخلق وشقوة تفتيق الماء من الصخر. فبعد الاشتغال على تخصيب النص القصصي، ضمن تجربة الحدود المفتوحة واللايقين الدائم، بالتمارين الأسلوبية والشخصية الفارزة والصناعة التقليدية والصوت والسينما والموسيقى والتشكيل، في كتاب «مصحة الدمى» تم الانفتاح على الفوتوغرافيا في تقاطعها مع العالم السحري الغامض للدمى. تجربة لها جذور نفسية عميقة تعود إلى طفولتي، وتطلبت مني جولة سياحية معرفية طويلة داخل المتحف المتخيل أو الغاليري الوهمي لأصناف الدمى. طبعاً، كتبت دراسات ومقاربات نقدية كثيرة عن هذا الكتاب، لكن ما أود أن ألفت إليه الانتباه، أن «مدونة الدمى» التي أعقبت «النسيجة»، هي سبعة أنواع من الدمى تقابلها سبع تقنيات لكتابة القصص في كل جناح من أجنحة «المصحة»، كما أنّ الأبيض والأسود، الضوء والظل، هي موتيفات ومهيمنات لونية داخل مناخ النصوص ومتناسبة مع سارد يروي كما لو أنه كاميرا تصوير فوتوغرافي. أيضاً، ثمة عناصر للترسيخ وضعتها بخط سميك مثل (عدد الطوابق، المعطف الشتوي، المظلة، الحقيبة...) كانت تنتقل بنفس المتتالية الحسابية من نص إلى آخر، لكن في كل نص كانت تضطلع بوظيفة جديدة وتعلب دوراً مختلفاً. لا أريد أن أتحدث كناقد، إذ يستحسن بالنسبة للقاص أن يتحدث كمبدع ويتدخل في عمله بأقل قدر ممكن، ويترك الباقي لأهل الاختصاص.

■ ما علاقة كلمة: «تجريب»، بكلمة: «تخريب»؟ هل هي مجرد مصادفة في رأيك أن تتشابه هاتين الكلمتين إلى حد التطابق تقريباً؟ هل يمكن اعتبار كل مجرب مخرباً؟ خصوصاً أن الثقافة العربية -على الأقل في التعريفات الأصولية التي تصلنا عنها- ثقافة مستغلقة تثمّن التكرار والتبعية على الإبداع (البدعة) وعلى المغايرة والاختلاف، بالتالي تعتبر كل خروج عن أنساقها الصلدة محاولات تخريبية تعاقب عنها. هل أنيس الرافعي كاتب مخرب؟ وهل القارئ العربي مهيأ ومستعد ومتواطئ مع هذا التخريب؟.
ــ لو كنت أصيخ السمع لهذه التهم، لتوقفت عن الكتابة منذ زمن طويل. ذات يوم وصفني أحدهم بأنني «عاهة» في جسم القصة المغربية. ومرت الأيام، لأصدر مؤخراً كتاباً تجميعياً بعنوان «متحف العاهات» إكراماً لهذا الشخص وحتى أوفر له إمكانية التأكد الفعلي من نبوءته الخائبة. ما أكتبه يصح أن نسميه «قصصاً مدرعة» كما ينعتها العراقي الراحل محمود جنداري. رحلتها شائكة وحزينة ومليئة بالعوائق والرفض وسوء الفهم وقطاع الطرق. تلوح للوهلة الأولى أنها قامت بتصديع كيان القصة المعيارية المتعارف عليها، وانفردت بطرائق فظة للقول الحكائي مختلفة عن المواضعات المتوارثة، وذات منطلقات غير مألوفة للتكون الإبداعي. لكن، أليست هذه «المغايرة العنيفة» ضرورية –بمعناها التطهيري - إذا ما شئنا اجتراح نص قصصي بأنساق جمالية جديدة وخارج المطلق السردي؟ شخصياً، لا أعتبر نفسي «مخرباً» بقدر ما أحسبني قاصاً جريئاً يقف في وجه بلادة «القصصية». هل أنا «تجريبي»؟ لا أعرف، ريموند كارفر عندما ظهرت أولى قصصه في أميركا وُصم كذلك بكونه يمارس «تجريباً مينيمالياً»، وهو الآن من كلاسيكيي الفن القصصي العالمي.

■ في مصحة الدمى يبدو المجهود الذي قمت به سواء على مستوى الشكل كما الموضوع مميزاً ومدهشاً أيضاً في التقنيات الأسلوبية التي تنحو في اتجاه متتاليات رياضية ومعادلات محسوبة مسبقاً وليس هناك من هامش للصدفة أو الخطأ وتضمين كل ذلك داخل فضاء فوتوغرافي بالأبيض والأسود والظلال والنظائر. ما هي الأسس والمرجعيات التي تقوم عليها كتابة القصة عند أنيس الرافعي حتى لا أقول أسس ومنطلقات التجريب عند أنيس الرافعي أو التجريب بشكل عام، وماهي النقائص أو القلق الذي يساور هذا النوع من صنعة القصة داخل المغرب وأيضاً على المستوى العربي؟
ـــ سأتحدث فقط عن «القلق»، لأن هذا النوع من القصص محكوم عليه بأن يكون ذا مقام أرستقراطي متفرد، وبالتالي فدائرة تلقّيه ضيقة وغير جماهيرية. المعطى الثاني، أنه يحتاج إلى قارئ نخبوي ملم بمرجعيات ومعارف وحقول مختلفة، حتى يستطيع النفاذ إلى هذه «الشكلية القصصية الاستعارية» التي تنصّلت تماماً من ماضويتها على صعيد أنماط بناء الحكاية وأصناف الموضوعات. أما المعطى الثالث، فلصيق بمشغل الكاتب ذاته ودليل استعماله الشخصي الذي يسميه الكاتب المغربي أحمد المديني ﺒـ «محترف النحلة العاملة»، إذ قد تفشل خطة البحث ولا تفضي في نهاية المطاف إلى كتاب قصصي ناجح. ومن ثمة، عليك البدء من جديد. أعتقد أن هذا هو قدر القصص التجريبية: عمل على حافة الفناء. ميتات متكررة وتقمصات دائمة لأرواح بديلة.

■ بماذا تفسر تراجع فن القصة القصيرة أمام الرواية إعلامياً وعلى مستوى الأنشطة والملتقيات الكبرى وأيضاً على مستوى ما تهتم به دور النشر؟ إلى درجة أن البعض يتحدث اليوم عن انقراض هذا الفن؟ هل يمكن أن نعزو ذلك فقط لبريق الجوائز التي يسيل لها لعاب كتاب كثيرين فيختارون الرواية؟ أم أن الرواية بطبيعتها فن أكثر إغراء وإقناعاً ويتيح ما لا تتيحه القصة القصيرة؟
ـــ ما ذهبت إليه قد يكون صحيحاً تماماً أو خاطئاً على طول الخط على حسب الزاوية التي ننظر منها لهذه الكرة البلورية. القصة اليوم فن هامشي شاحب وفاقد للمعان والجاذبية. «مسيح» الأجناس الأدبية إذا صح التعبير، والقاص هو الطائر اليتيم للسرد الذي لا يخضع لمعايير التسليع والتسويق. لكن لا أعتقد أن مردّ هذا التراجع أو التآكل أو الانحطاط سمّه ما شئت، مرتبط بديكتاتورية الرواية أو بإغراءات الجوائز، بقدر ما هو مرتبط بممارسي القصة أنفسهم، الذين لم يستطيعوا الخروج من دائرة «الأقلية الأدبية»، والتخلص من الشعور بكونهم يكتبون ضمن نطاق «عقيدة منبوذة ». أحسب، لو تخلصنا من مركّب «الضحية» هذا وغادرنا «مجتمعنا السري» صوب تحويل هذا الفن إلى «مؤسسة»، سوف تنهض القصة من جديد. علاوة على هذا، يجوز أن نتساءل: هل ما يكتبه القاص العربي يستجيب للذائقة العامة؟ ناقد مثل إدوارد أوبراين في مؤلفه «رقصة الماكينات: القصة القصيرة الأميركية والعصر الصناعي»، دافع بشراسة عن حق وجود هذا الطرز الأدبي وشرعيته، مقدماً مبررات شيوعه في فترة ثلاثينيات القرن الماضي، انطلاقاً من أن المجتمع الأميركي بنيان آلي، والقصة القصيرة شبيهة بالآلة التي انبثقت منه وعكسته. في رأيك: عند إجراء المقارنة، هل يحدث هذا التطابق في تربتنا العربية؟ وعن ماذا نعبر الآن بواسطة قصصنا؟ وهل نملك فعلاً شرعية وجودنا قياساً إلى انعكاسات صورتنا في المرايا المتقابلة لمجتمعاتنا وقضاياها الشائكة؟

■ أخيراً ماذا عن جديد أنيس الرافعي، وما الشكل الذي سيتخذه كتابه القصصي القادم؟
ـــ هي مجموعة حكايات من عالم «الكوسموفوبيا ». نوع من المعارضة السردية لكل من فيتولد غومبروفيتش في «كوسموس» وإيتالو كالفينو في «كوسموكوميكس». أو لنقل: عندما تصعد القصة نحو السماء في حركة نازلة إلى الأرض! المهم، عبرت أنواعاً كثيرة من الأغبرة الكونية، وجابهت وحوشاً ضارية قادمة من أحقاب ما قبل التاريخ، وها أنذا أسبح الآن بين الكواكب والمجرات والنجوم، وأدور حول النيازك والمذنبات والأفلاك، وعلى ما يبدو فإنني لن أنزل قريباً إلى الأرض، بل أتمنى أن لا أعود أبداً. فثمة «ثقب أسود» في أقمار روحي، من المؤكد أنه سوف يلتهمني قريباً!