يجب أن تُبنى استراتيجية تحقيق الوحدة الاقتصادية على المشتركات وتطويرها. المدخل يكمن في التركيز على القطاعات المتشابهة. ونظراً إلى تجربة السوق الأوروبية المشتركة، كانت الخطوة الأولى إنشاء الجماعة الأوروبية للصلب والفحم التي شكّلت البنية التحتية للصناعات الثقيلة والتحويلية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ليس في الوطن العربي بنية صناعية كبيرة للصناعات الثقيلة أو التحويلية. فالصناعة، بمعزل عن الصناعات الاستخراجية في مجال النفط والغاز، ليست القطاع الأول عربياً. الصناعات التحويلية العربية تسهم فقط بـ 10% من الناتج الداخلي الإجمالي مقابل مساهمة تتراوح بين 25% و35% للصناعات الاستخراجية. لذا، قد يكون مهمّاً إنشاء مؤسّسة عربية تعالج القضايا المشتركة في هذا القطاع لتحقيق الأهداف الآتية: - أولاً، التنسيق بين الدول المنتجة للنفط والغاز بغية الحفاظ على القيمة المضافة في الدول المنتجة وليس لتصديرها.
- ثانياً، التنسيق بين الدول لتحصين البنى الاقتصادية في الصناعات الجديدة التي تحدثها الثورة التكنولوجية في الذكاء الاصطناعي التي تتطلّب الطاقة.
ثالثاً، التنسيق بين الدول المنتجة حول الوصول إلى بنى اقتصادية متماسكة ومكملة لبعضها البعض في قطاع الزراعة لتحقيق وتحصين الأمن الغذائي. هذا يعني التنسيق مع بعض مصادر الطاقة غير المستخرجة أي الطاقة المائية و/أو الهوائية.
- رابعاً، إجراء البحوث العلمية في البدائل الممكنة للطاقة توازن بين الحفاظ على البيئة والجدوى الاقتصادية في التنمية الصناعية والزراعية.
أما في ما يتعلّق بتحصين استقرار السوق من التقلّبات التي قد تنتج من تجاذبات في عالم أصبح متعدّد القطبية، فإن مؤسّسة أوابك، منظّمة الدول العربية المصدّرة للنفط (ونضيف إليها الغاز) تقوم بذلك. ويمكن دراسة العلاقات المشتركة بين المنظومتين، القائمة حالية أي أوابك والتي يجب إنشاؤها ونسمّيها منظمة النفط والغاز العربي.
هذه المؤسسة تنسق مع المؤسّسة المشرفة على السوق العربية المشتركة. المفارقة أنه في أوروبا أفرزت جماعة الفحم والصلب السوق الأوروبية المشتركة، بينما أُنشئت السوق العربية المشتركة في بداية الستينيات من دون مؤسّسة أمّ. والسوق العربية المشتركة ظلّت مشروعاً لم ينفّذ على أرض الواقع لأسباب سياسية بدليل ضحالة التجارة البينية العربية، مقارنةً مع التجارة العربية مع دول العالم. وهذا المستوى المتدنّي لحجم التجارة البينية، يعود إلى المزاجية السائدة بين حكومات الدول العربية التي تضع أهدافها وشجونها السياسية في أولويات العمل المشترك وليس العمل المشترك كهدف استراتيجي يجب أن يتحقّق مهما كانت الظروف. من مقتضيات التجارة العربية - العربية إيجاد شبكة سكك حديدية بين الأقطار وداخلها. لذا، لا بدّ من إنشاء مؤسّسة تخطّط وتعدّ دراسات الجدوى التقنية والاقتصادية والتمويل لإنشاء وتطوير هذه الشبكة، وتحديد الفترة الزمنية لتحقيقها. صحيح أن عدداً من الدول العربية باشر بتطوير شبكات سكك الحديد، كالمغرب ومصر والجزائر، ولا سيما سكك القطار السريع الذي تصل سرعته إلى أكثر من 200 كيلومتر/ ساعة. كما أن هناك مشاريع تربط تونس والجزائر ودار البيضاء (1980 كلم) والإسكندرية وبنغازي وطرابلس وتونس (2770 كلم). لكن هذه المشاريع لن تنجز قبل 2030 و2040 لأسباب متعدّدة. وتسجّل جهود في بلاد الحرمين، لتطوير شبكتها الداخلية التي تربط المدن الأساسية بعضها ببعض لتصل إلى الحديثة على الحدود مع الأردن. لكن يلاحظ غياب مشاريع تطوير شبكات السكك الحديدية في بلاد الرافدين وبلاد الشام بسبب الظروف السياسية التي تعصف بها منذ أكثر من أربعة عقود، علماً أن هناك معلومات تفيد بأن الصين عرضت على حكومتَي العراق وسوريا مشاريع تطوير وإنشاء سكك حديد تربطها مع شبكة السكك في آسيا ضمن مشروعها الكبير للطريق الواحد والحزام الواحد.
وعندما نتكلّم عن سكك الحديد لنقل البضائع والبشر، لا بد من إعادة طرح إلغاء التأشيرات بين الدول العربية. فمعظم الدول العربية تتساهل مع الأجانب وخاصة الغربية، وتنزل أشدّ الأحكام والقيود على الزائرين و/أو العاملين العرب في مقابل لا قيود تذكر على حرّية تنقّل رأس المال. القيود المفروضة هي غالباً ذات غايات سياسية، كما حصل في محاصرة لبنان مالياً واقتصادياً من قبل بعض الدول العربية.

أي نموذج؟
النهضة الاقتصادية العربية تتطلّب تضافر الجهود ورؤية واضحة لنموذج اقتصادي له ضوابط صارمة ولديه مرونة تتيح له التكيّف مع التحوّلات والتقلّبات في الدورة الاقتصادية. الضوابط هي حدود القطاعين العام والخاص، ومدى التفاعل بينهما. ثمة مجموعة ملاحظات بهذا الشأن:
- الأولى: ضرورة قوّامة القطاع العام في المرافق الاستراتيجية للاقتصاد. فالصناعات الاستخراجية (نفط، غاز، ومعادن) والطاقة والمرافئ والمطارات والسكك الحديد وشبكات المياه لا بد من أن تكون تحت سيطرة الدولة، وإن كانت هذه السيطرة تأخذ أشكالاً مختلفة من مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص، إلى مشاريع بناء وتشغيل وتسليم (BOT)، إلى ملكية عامة للمواطنين. فهذه القطاعات تستلزم استمارات ضخمة للإنشاء والتشغيل والتطوير خارج طاقة وقدرة القطاع الخاص. وإذا تمكّن القطاع الخاص من السيطرة على أي من هذه القطاعات، فسيكون متمتعاً بحالة احتكارية وما لها من سلبيات على الاقتصاد القومي وانكشاف تجاه الخارج. فرأس المال لا وطن له إلا في الربح وإن كان على حساب المواطن العربي ومصلحة الدولة القومية.
- الثانية هي أن القطاع المالي يجب أن يكون خاضعاً لمتطلبات القطاعات الإنتاجية وليس قائماً على قاعدة الربح. فالقطاع المالي هو قطاع ذو منفعة عامة ويستعمل الربح لضمان بقائه وليس للتفوّق والسيطرة على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. فالنموذج القائم حالياً في الغرب، نموذج فاشل نما في حقبة ما بعد التصنيع وأدّى إلى انكشاف الاقتصاد الأوروبي تجاه العالم والولايات المتّحدة التي هي أيضاً خاضعة لسيطرة القطاع النقدي والمالي. في المقابل، نرى النموذج المالي الصيني خاضعاً لمتطلّبات الاقتصاد العام والإنتاجي بشكل خاص. ومعظم النظام المصرفي في الصين ملكية الدولة حيث لا يستطيع رأس المال التحكّم بالسياسات الاقتصادية.
- الثالثة هي ضرورة التركيز على طبيعة الاقتصاد ليصبح اقتصاداً إنتاجياً وغير ريعي. هذا يعني تحوّلاً كبيراً في بنية الاقتصادات العربية لأن طابعها الريعي يمنع الاستثمار في التجدّد الاقتصادي ويكرّس الاحتكارات المحليّة التي تقضي على التنافس. التنافس هو ضرورة للتفاضل/ التكامل الاقتصادي. إذ يصعب التصوّر بأن توافق الاحتكارات القُطْرية الاندماج باقتصاد أوسع وأكبر وتحافظ على احتكارها المحلّي.
- الرابعة تكمن في طبيعة الاستراتيجيات الاقتصادية للتحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي. العالم يشهد الآن صراعاً بين نوعين من الرأسمالية: رأسمالية إنتاجية صناعية زراعية تقودها دول البريكس، والرأسمالية الريعية المالية التي تقودها الولايات المتحدة. الرأسمالية الإنتاجية تستغلّ العمل الصناعي والزراعي، بينما الرأسمالية الريعية المالية تستغلّ كل أشكال العمل. المشروع العربي الاقتصادي عليه أن يبلور نظاماً اقتصادياً يحيّد استغلال العمل. لذا، تصبح الضوابط للنشاط الاقتصادي مبنية على مفهوم العدل الذي كرّسه الموروث الثقافي العربي. الاقتصاد الوضعي الخارج عن إطار الأخلاق يؤدّي إلى التشوّهات في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية. تشريع قوانين ترسّخ الأخلاقيات في السلوك الاقتصادي هو الضمانة لعدالة اقتصادية واجتماعية. فالعدالة كالأمن، لا تتجزّأ، وبالتالي التشريعات التي تضمن التنافس وتحرّم الاحتكار هي القيمة المضافة للتجدّد الحضاري في المشروع النهضوي العربي والذي يسعى إلى تنمية مستقلّة عن القرار الخارجي وإلى عدالة اجتماعية بين مكوّنات المجتمعات العربية في مختلف الأقطار.
- الخامسة هي تحديد أولويات في الخطة الاقتصادية المطلوبة. بالنسبة إلينا، الأولوية تكمن في تحصين الاستقلال القومي بما يعني تخفيف الانكشاف الاقتصادي والمالي تجاه الخارج. هذا لا يعني القطيعة مع الخارج، بل تحديد مسار العلاقات الخارجية الاقتصادية بما يحقّق الاستقلال الوطني. ومن ضمن الأولويات في هذا القطاع تحقيق الأمن الغذائي عبر الاكتفاء الغذائي، وهذا ممكن بما يملكه الوطن العربي من إمكانيات زراعية وفي الطاقة. كما أن هناك أهدافاً أخرى كتعزيز القدرات التنافسية عبر تمكين البنى التحتية والاستثمار في الطاقة البشرية وفي التكنولوجيا.
المشروع العربي الاقتصادي عليه أن يبلور نظاماً اقتصادياً يحيّد استغلال العمل


- السادسة، هي أن النموذج الاقتصادي المنشود لا يسعى إلى إنتاج الثروة، وخاصة الثروة المادية، بل التقدّم والرفاهية للإنسان العربي. الموروث الثقافي التاريخي في الاقتصاد لم يكن مبنياً على إنتاج الثروة، بل على توزيعها بشكل عادل ووفقاً لأحكام الموروث الثقافي. لم يكن ذلك تقصيراً، بل ثقافة مختلفة عن الثقافة الغربية التي اعتبرت إنتاج الثروة طريق الخلاص في الآخرة وفقاً للمفهوم البروتستانتي الذي ربط التراكم الرأسمالي بالنجاة في الآخرة. لم يكن النموذج الغربي بعيداً من المضمون الديني، بل ربما استغلّ الدين لاكتساب شرعية غير مستحقّة وغير موجودة في الأساس.
يجب ألا تختصر مناقشة المشروع على الباحثين والاختصاصيين، بل يجب أن يخضع لمناقشة مع أوسع مروحة من مكوّنات المجتمع العربي كنقابات وهيئات ومنتديات وأحزاب وإعلام مرئي ومكتوب وعبر التواصل الاجتماعي. هكذا نحقّق الوحدة العربية، ونحقق أهداف المشروع النهضوي العربي.

* باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي



مشاريع مشتركة
يتم التشبيك الاقتصادي في عدد من القطاعات التي تساهم في بناء وتحصين البنية التحتية العربية. وهناك مشاريع يجب القيام بها لهذا الغرض، وهي على سبيل المثال:
- تشبيك شبكات الطاقة بين الأقطار كافةً.
- تشبيك قنوات وأنابيب المياه بين الأقطار كافةً.
- تشبيك أنابيب النفط والغاز بين الأقطار كافةً وبناء القنوات المائية بينها.
- خطوط المواصلات السلكية واللاسلكية وشبكات الإنترنت السريع وفائق السرعة.
- إنشاء أسطول عربي لنقل البضائع العربية، إضافة إلى نقل الغاز والنفط.
- توحيد خطوط الطيران العربي وسائر وسائل النقل البرّية.
- المشاريع الثنائية على حدود مشتركة (لبنان وسوريا، سوريا والعراق والأردن، الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وموريتانيا، مصر وليبيا والسودان، السودان والصومال وجيبوتي وجزر القمر). من ضمن تلك المشاريع الثنائية، نعرض إنشاء مدينة تكنولوجية نموذجية على الحدود اللبنانية السورية و/أو السورية العراقية، وعلى الحدود الجزائرية المغربية و/أو التونسية. ويمكن تكرار النموذج على جميع الأقطار العربية.