تحتاج أسواق الطاقة حالياً إلى استثمارات ضخمة حتى تواجه قصور العرض والزيادة المتوقّعة في الطلب بخلاف ما كان عليه الأمر في السابق. فخلال القرنين الماضيين، أي منذ انطلاق الثورة الصناعية الأولى، توفرت الطاقة بكميّات كبيرة وبكلفة محدودة شكّلت دعماً للنشاط الصناعي. لكن هذه الحقبة شارفت على الانتهاء إن لم تكن انتهت فعلاً، ولا تبدو البدائل متاحة على نحو فوري وبكلفة يمكن تحمّلها، فالوقود الأحفوري يؤمّن 83 في المئة من مجمل الطلب العالمي، وما زال علينا الانتظار عقوداً أخرى قبل أن نبدأ بالفعل في الدخول إلى عصر ما بعد النفط، رغم ما حقّقته بعض الدول من إنجازات.إنّ هذا يحتّم امتلاك رؤية جديدة للطاقة وشبكات نقلها وطرق التزوّد بها، وكذلك للعلاقة بين المورّدين والمستوردين، ودور الطاقة في لجم النمو العالمي أو تحفيزه. وفي واقع الحال توجد علاقة ارتباط قوية بين استهلاك الطاقة ونمو الاقتصاد السلعي، أكثر من ارتباطه بالاقتصاد الخدماتي وغير المنظور، بل يمكن النظر إلى الطاقة بوصفها إحدى محركات النمو شأنها في ذلك شأن الفائدة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

وتسهم أربعة تحولات في تغيير خريطة الطاقة العالمية:
- الانتشار السريع لاستخدام الطاقة البديلة والانخفاض في أكلافها (انخفضت كلفة الطاقة الشمسية بنسبة 70% والرياح 25% والبطاريات 40%).
- زيادة الاعتماد على الكهرباء في مجال الطاقة، إذ إن قيمة استهلاك الكهرباء عالميّاً في 2016 تساوي كلفة استهلاك النفط.
- تحوّل الصين، أكبر مستهلك للطاقة في العالم، نحو اقتصاد موجّه صوب الخدمات ونحو مزيج أنظف للطاقة.
- المرونة التي أظهرها قطاع الغاز والنفط الصخريّين في التكيّف مع تغيرات السوق، ما قد يجعله المصدر الأول للتزويد بالطاقة عام 2040. فيما يقدّر ارتفاع إنتاج النفط الصخري بنحو 8 مليون ب/ي في السنوات القليلة المقبلة.
ويُتوقع أن تتبوأ الطاقة النظيفة (الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة) المركز القيادي عالميّاً، بحيث تفي بنحو 40% من الزيادة في الطلب الأولي على الطاقة، وتستحوذ على ثلثي الاستثمارات العالمية في محطات توليد الكهرباء و 80% في الاتحاد الأوروبي، ومن المرجح أن ترتفع حصّة الطاقة المتجددة في العالم من 9% إلى نحو 16%.
وتعدّ الكهرباء القوّة الصاعدة في أسواق الاستهلاك العالمي. فبحلول 2040 ستستحوذ على 40% من الزيادة الإجمالية في الاستهلاك، ومن الاستخدامات البارزة السيارات الكهربائية التي ارتفع عددها إلى نحو 900 مليون سيارة في غضون عقدين من الزمن. وفي المدّة نفسها تقدّر الزيادة في الطلب على الكهرباء في الصين بما يساوي مجموع الطلب الأميركي، إذ تركّز سياساتها المتعلّقة بالطاقة على الكهرباء والغاز الطبيعي والتقنيات الرقميّة ذات الكفاءة العالية في ترشيد الاستهلاك.
الخيار الشرقي ينطوي في مجال النقل العالمي برّاً وبحراً على رفع نسب التجارة البرية وحماية خطوط النقل البحري وخفض كلفة النقل وأجور الشحن


تكفي الإشارة في هذا السياق إلى أنّ الصين تنتج ثلث الطاقة المتجددة والنظيفة في العالم، و40% من السيارات الكهربائيّة، وهي مسؤولة عن ربع الارتفاع المتوقع في الطلب على الغاز الطبيعي. وسينمو الطلب كذلك على الغاز المسال ليعادل ربع الطلب العالمي بعد عقدين، ليكون ثاني أكبر مصدر للوقود بعد النفط، وستكون الصين والهند والبلدان النامية الأخرى في آسيا مسؤولة عن 80% من النمو المتوقّع في الغاز، فيما سترتفع حصة مصادر الطاقة ذات الانبعاثات الكربونية المنخفضة إلى 40% في المدة نفسها.
ما نستخلصه، هو أنّ الوصول إلى عصر الطاقة المتجدّدة ما زال بعيد المنال، لكن في المقابل وكما توقعت وكالة الطاقة الدولية منذ عشر سنوات تقريباً، فإنّ العالم بدأ يدخل بقوّة في عصر الغاز الذهبي، مع ما يستتبعه ذلك من تحولات جيو - اقتصادية تميل نحو الشرق، ومن انعكاس على العلاقات بين الدول والصراعات في ما بينها. وسيترافق الدخول إلى عصر الغاز مع خمسة أمور:
- الأول: التوازن في العلاقة بين الدول المنتجة للغاز والدول المستوردة له. فبخلاف النفط، تحتاج تجارة الغاز إلى استثمارات كبيرة في خطوط الأنابيب لا تقلّ أهمية عن الاستثمارات في حقول الإنتاج، كما لا تتمتع الدول المنتجة بنفس المرونة التي تمتلكها في مجال النفط، في التحكم بحجم الإنتاج ومستوى الأسعار.
- الثاني: تؤدّي آسيا ودول المشرق دوراً أساسيّاً في سوق الغاز في جانبَي العرض والطلب، إذ إنّها تستحوذ على ثلثي الإنتاج تقريباً ويتوقّع أن تتجاوز وارداتها منه نصف الواردات العالمية في غضون العقدين المقبلين، ما يجعلها القوة الأساسيّة المؤثّرة في السوق العالمي.
- الثالث: تحظى الدول التي تمرّ بها خطوط نقل الغاز بأهمية قد تضاهي أهمية الدول المنتجة والمستوردة له، كما قد تزجّها في صراعات وتوترات تؤثّر على حاضرها ومستقبلها. علماً بأنّ آسيا الوسطى ودول المشرق العربي وجوارها تشكّل محوراً أساسيّاً لخطوط الغاز وممرّاً إجباريّاً لها في بعض الأحيان.
- الرابع: تمرّ إمدادات الغاز عبر البرّ والممرّات المائية الداخلية الواقعة ما بين الدول المجاورة، فيما يجوب النفط البحار والمحيطات في انتقاله بين الدول المصدّرة والدول المستوردة، وبذلك يكون خاضعاً لهيمنة الدول التي لها اليد العليا في البحار.
- الخامس: ترتبط اقتصاديات النفط بالكارتيلات العالمية والشركات الكبرى المسيطرة على اقتصاديات النقل والإنتاج والبيع، فيما اقتصاديات الغاز الطبيعي أكثر التصاقاً بإرادة الدول ومصالحها وسياساتها العليا.
وبناءً عليه، فإنّ المنافسة والصراع بين الشرق والغرب على مصادر الطاقة تميل باتجاه الشرق في مقابل المزايا التي ما زال الغرب يمتلكها في مجال النفط وغيره من مصادر الطاقة الأحفوريّة والتقليديّة.



نماذج من الصراع على الغاز
- مشروع خط الغاز الروسي ــ ألمانيا عبر أوكرانيا: أنجز في عهد الاتحاد السوفياتي 1982-1984، ولاقى معارضة أميركيّة. وجرى في المقابل إطلاق مشروع نابكو عام 2002 ليكون بديلاً من الغاز الروسي، في نقل الغاز من مصادره في آسيا الوسطى عبر تركمنستان وأوزبكستان وكازاخستان ومن ثم بحر قزوين وتركيا باتجاه أوروبا. وردّ الروس بتوقيع عقد احتكار الغاز التركماني.
- عام 2012 وُقّع اتفاق بين تركيا وآذربيجان لبناء خط نقل للغاز من آذربيجان باتجاه تركيا باسم خط الغاز عبر الأناضول «تاناب»، وفي عام 2019 أُعلن استكمال إنشاء الأنبوب ليصل إلى الحدود التركيّة اليونانيّة، ومن المخطّط ربطه بالأنبوب العابر للبحر الأدريارتيكي (تاب). حمل المشروع اسم ممرّ الغاز الجنوبي، ومن المتوقع أن يضخّ 16 مليار متر مكعّب سنويّاً إلى أوروبا، علماً بأنّ شركة روسيّة تملك 10% من المشروع.
- مشروع السيل الشمالي (نورد ستريم): وهو خط أنابيب للغاز الطبيعي يمرّ عبر قعر بحر البلطيق إلى غرانفسفالد في ألمانيا (بطول 1221 كلم) الذي بدأ الضخّ منه عام 2011، والهدف منه هو تحييد نقل الغاز إلى أوروبا عن التعقيدات السياسيّة. وفي عام 2018 باشرت الشركات الروسيّة العمل على مدّ خط ثانٍ موازٍ عرف باسم السيل الشمالي الثاني (نورد ستريم 2)، ومع تشغيل هذا الخط يصل اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي إلى 75% من مجموع حاجاتها. وقد فرض الكونغرس عام 2012 عقوبات على المشروع لمنع الشركات الأوروبيّة من العمل به.
- السيل الأزرق والسيل التركي: يهدف إلى نقل الغاز الروسي إلى تركيا عبر البحر الأسود. وُقّع الاتفاق بشأنه عام 2014، واستكمل العمل بالمشروع وبدأ الضخ عام 2018. (حفريّات 3/9/2020)
- خط غاز مد إيست: من المنظور الأميركي فإنّ مساهمة تاناب تبقى ضئيلة مقارنة بحجم الإمدادات الروسيّة إلى أوروبا البالغة 243 مليار متر مكعّب. وبناء عليه وقّع كلٌ من إيطاليا وقبرص واليونان وكيان العدو عام 2017 اتفاقاً لإنشاء خط غاز بطول 1872 كلم لتأمين ما بين 9 مليارات و11 مليار متر مكعّب سنوياً من الاحتياطيات الواقعة في شرق المتوسط. وفي عام 2019 وقّع اتفاق شمل الدول الأربعة ومصر والأردن والسلطة الفلسطينيّة وفرنسا، يقضي بإنشاء سوق إقليمي يخدم مصالح الدول الأعضاء، ويضمن استدامة إمدادات الغاز إليها. وتُعدّ اكتشافات الغاز قبالة شواطى فلسطين المحتلة وقبرص ومصر متغيّراً أساسيّاً في الجيوبوليتيك المشرقي. وكان اكتشاف دولة الاحتلال عامل تحريك أساسي لعلاقات التطبيع بينها وبين بعض الدول العربيةّ. إذ غذّى الغاز الآتي من فلسطين المحتلّة، لسنوات عدّة، حاجات مصر عبر أنابيب تبدأ من عسقلان على الشاطئ الفلسطيني ثم تصل إلى العريش وإلى بورسعيد، وبدأ الأردن أيضاً باستيراد الغاز عبر الأنابيب من كيان العدو. وكان هذا الأخير دشّن أول حقل له عام 2014، وتقدر احتياطياته بـ240 مليار متر مكعب في حقل تامار و450 ملياراً في حقل ليافاتان و127 ملياراً في حقل أفروديت، وهذه الحقول هي من أهم وأكبر الحقول المكتشفة في الساحل الشرقي للمتوسط، فيما صار حقل ظهر المصري (2015) الأكبر على الإطلاق باحتياطي مقداره 850 مليار متر مكعب.
- خطّ غاز قوة سيبيريا: ينطلق هذا الخط من عمق روسيا (بطول نحو 2000 كلم) إلى الصين ناقلاً 38 مليار متر مكعب من الغاز، وهذه الكمية تغطّي نحو 6% من حاجات الصين البالغة سنويّاً نحو 610 مليارات متر مكعّب.