على مدى الثلاثين السنة الماضية، أنتجنا وأعدنا إنتاج مجتمعنا. الإنتاج الحقيقي هو عملية اجتماعية. والمفصل الرئيسي في الإنتاج هو الإنسان الاجتماعي، أي كل القدرات الاجتماعية والبيئية التي تنتج الإنسان، وكل طاقاتنا البشرية والبيئية مدخل في الإنتاج. وقياس إنتاجنا الكمّي كرمز بالقيمة المضافة سنوياً، أو بمعدل النمو الاقتصادي المبني على الناتج القومي.على مدى ثلاثين سنة، نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدلات إنتاج تقارب الـ٥٪ بالأسعار الثابتة. وهذه معدلات مرتفعة، وتعني مما يجب أن تعنيه، ارتفاعاً مرموقاً في مستويات المعيشة. لكن بالنسبة إلى قدراتنا الإنتاجية، فقد بقينا كما نحن بالمطلق. وعلى الأرجح حصل تدنٍّ نسبي في تكوّن رأس المال الإنتاجي. اجتماعياً حصل أيضاً أن تدنّت نسبة التقزّم لدى الأطفال بفرق بسيط؛ ما دون الخامسة من العمر من 17.2٪ إلى 16.5٪ خلال عقد من الزمن، وبين عامَي 1996 و 2004، بحسب معطيات البنك الدولي.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

وربطاً بتوزّع الدخل، فقد تدنّت حصّة الأجور من الناتج القومي من النصف إلى ما يقارب الربع. زد على ذلك ما هو حاصل من تدهور بيئي واجتماعي. لذا نجد أن هذه القيمة المضافة، كما هذا الإنتاج على مدى الثلاثين السنة الماضية، لم تكن لهما الفائدة الاجتماعية بل على العكس، كانا على شكل إنتاج هدري. لنأخذ مثلاً، معمل صهر بطاريات السيارات الموجود على ضفاف نهر الليطاني. هو معمل يبيع القصدير أو المعدن المصهور إلى ألمانيا. لكن هذه العملية تتم بأجور متدنية ونتيجتها تسمم بيئي. ما يعني أن كل المدخلات البيئية أوالاجتماعية - التي صهرت البطارية - تبقى مخرجات وطنية نتداولها في السوق الوطنية وندفع ثمنها على المدى الطويل، أو في التاريخ الحقيقي. وضمنها كلفة الفواتير الصحية، والآفات الاجتماعية الناتجة عن خفض الأجور إضافة إلى الضرر المؤجّل لكلفة تنظيف البيئة. بينما استفادت ألمانيا من الأكلاف القليلة. ودفع مجتمعنا الأكلاف الأهمّ من صلب حيوات الناس وعلى مدى دورة إنتاج كاملة. وبما أننا أنتجنا في هذه الحالة، السموم البيئية، ثم استهلكناها من خلال المنتجات البيئية، فنحن هنا نستهلك من حيواتنا أكثر مما نستثمر فيها، أي أن القيمة المسعّرة في السوق والمنتج الأساسي كان السمّ البيئي أو الاجتماعي. بكل بساطة، فالمجتمع دعم كلفة إنتاج المعدن المصهور بما لا يعيد إنتاجه ككتلة حيوية اجتماعية. وعندما نعتبر أن بيع السلعة في زمن كرونولوجي آنيّ ما هو إلا لحظة في عملية إنتاج المجتمع، وأن مجمع المدخلات والمخرجات على مدى دورة الحياة تشكل كلًّا عضوياً في دورة الإنتاج. هنا يتجلى قانون القيمة في فهم العامل التاريخي لتكوين الأرباح أو الثروة. فولا لم ندفع نحن أكلاف الآفات المتعلقة بخفض الأجور والفواتير الصحية وفواتير كذا وكذا (في معمل صهر المعادن وما شابهه من الصناعات الربحية) لكانت الشركات الألمانية التي اشترت المعدن المصهور هي من يتحمل هذه الأكلاف، ولكانت ربحيتها أقل. لكن في عملية إنتاج فائض القيمة التاريخي هذا، تحتاج الشركات الكبرى إلى استلاب إرادة المجتمعات كي تقبل أن تستهلك ذاتها بوتيرة أعلى من خلال سلبها لإرادتها وقدرتها على التفاوض. وكلما ضعف الشعب اللبناني في تمثيل نفسه في عملية الإنتاج الاجتماعية، استغل القائمون بالصناعة والتجارة هذا الضعف لوضع الكلفة على كاهل المجتمع، ولكي تزيد من ربحيتها، وهذا ما يعنيه قانون القيمة.
النقطة التي يُفترض أن تستحوذ على انتباهنا هي أن العمل وإنتاجية العمل هما عملية اجتماعية. الفرد المجرّد غير موجود، الإنسان الحقيقي هو نتاج لما استثمره مجتمعه به. وبما أن ما يستثمره المجتمع بنفسه، هو نتاج لبناء الذات السياسية أو السيادية، تصبح حصّة الأجور من الناتج الاجتماعي علاقة مترابطة بمدى تحقق السيادة ومدى تراصّ الصفوف في المجتمع. وببساطة فإن المجتمع ينتج الثراء، لكن المتجمع المفكّك يقلّل من دخله. وبصيغة أخرى، طبيعة الحال أن حصيلة الدخل من الثراء منوطة بالقوة السياسية الممثّلة للقوى العاملة في المجتمع.
خلاصة القول، أن رأس المال علاقة اجتماعية مبنيّة على سيرورة عمل غرضها تقسيم الطبقة العاملة، أي هدفها سلخ الذات السيادية المبنية بدورها على أمن الطبقة العاملة، من الطبقة العاملة نفسها. وبقدر ما يقلّل المجتمع من إعادة الاستثمار في ذاته، يترك حصة أكبر من الثراء لرأس المال. أما المجتمعات المستلبة الإرادة فتعمل على تحييد أو تدمير مواردها لكي تتماشى مع أزمة فائض الإنتاج الدولي، والعكس صحيح.
هنا نأتي إلى لبنان الذي حيّد وهدر وهجر بيئته وناسه. وإذا نظرنا إلى لبنان ككل على هيئة مصنع منتج لقيمة ما، فجلّ ما ينتجه من ثراء، هو كم هدري بيئي وبشري هائل. كان المجتمع ككلّ مشاركاً في عملية الإنتاج الهدري. ورأس علاقات الإنتاج في هذا المصنع اللبناني، هو نتاج لصراع قوى اجتماعية غيّب فيها دور العمال من المعادلة. وهذه حقائق ما بعد الحدث. والرأس هنا، ليس إلا الكومبرادور المصرفي السائل في الدولار والمسيّل للأصول الوطنية بما في ذلك هدر الإنسان والبيئة التي تقيّد إعادة إنتاج المجتمع.
كانت الموازنات الطائفية تلعب دور المقسم ولكن هذا ليس بالأمر الاستثنائي. غريب. رأس المال لا يستوي من دون تقسيم العمل إما على أساس ديني أو عرقي أو قبلي أو جهوي. فهذه العلاقة تنبثق من تلك. أي إن رأس المال ينبثق من التقسيم الناتج عن سيرورة العمل. لكن الانتماءات الطائفية أو سياسة الهوية ليست هي سبب للأزمة. إنما تتحوّل إلى وسيلة. لأن الغاية من تسليح الهوية الثقافية هدفه ضرب العمالة بعضها ببعض أينما كانت. ومن مجمل الهويات الثقافية الكثيرة، فإن رأس المال، إن كان كولونيالياً أو امبريالياً، فهو يختار الهوية التي يريد أن يلبسها لشريحة ما، فتصبح في حد ذاتها محقّقة لأغراض الامبريالية. وعندئذ يأتينا المتكلّم باسم رأس المال من بنك دولي، ليقول إن هذه الهويات المركبة أسطورياً والتي ركّبها الكولونيالي كنشاط ريعي، كانت خارقة للتاريخ وللعب دور ريادي في الحاضر، بما في ذلك خلق الأزمات. فهي، أي الهوية السياسية، تصوّت وتنتخب وتقود سياسياً وبزبائنيتها تنقضّ على الإنتاج بسبب منافستها لطائفة أخرى.
إلا أن هذه الطوائف ليست بفاعل تاريخي، فما التصويت في ظل رأس المال، إلا المظهر الحديث لشعائر العبودية. أما الفاعل التاريخي فإنه يتجلّى بالقوة وله صفته التاريخية لأنه فرز لقوى اجتماعية ذات أيديولوجية مهيمنة تستعمل العنف بالضرورة لفرض خياراتها. فهي تقصف ثم تضع دستوراً طائفياً وتقسّم البلاد جغرافياً وتخصخص، ثم ترسل رعاع الطوائف إلى صندوقة الاقتراع. لذلك، ليس مستساغاً أن يأتينا زبون من عتاة البنك الدولي ليقول لنا مثلاً بأن التركيبة الاجتماعية والهوياتية في لبنان هي المسؤولة عن الأزمة، وبأن قطاعنا العام المملوك فعلياً للقطاع الخاص هو أيضاً مسؤول عن الأزمة. اللبنانيون ليسوا بالفاعل التاريخي. بل الفاعل التاريخي هو الطبقة المتحكمة والمهيمنة بأيديولوجيتها وأدواتها.
المصارف مثّلت الآلية التي سحبت القيمة من البلاد، ما لا يعيد إنتاج البلاد وهي مفلسة بسبب التجزئة المصرفية بنيوياً أينما كانت والمفلس يجب أن يخضع لسلطة القضاء الوطني


إن ما يستحقه لبنان اليوم، هو عملياً مستحق على مستوى الكون. لأن الهدر هو المنتج الكوني الرئيسي، وذلك سببه أن عقل التاريح غير مؤنسن، أي أن عقل السلعة هو ما يحكم. ولبنان ليس استثناء. إنما يشكل حالة قصوى من تحكم السلعة في حياة البشر. وعلى مدى ثلاثين سنة، وكي يقبل المجتمع هدر طاقاته وقبول تحويل نصف دخله إلى أرباح مصرفية على مدى ثلاثين سنة، وكي يستثمر في شبابه ثم يهجره ويهتك بيئته، كل ذلك سببه انسلاخ الإرادة والسيادة والنزول عند رغبة رأس المال.
وقبل أن أنهي هذا، فلنلقِ الضوء قليلاً على دور المصارف. فهي مثّلت الآلية التي سحبت القيمة من البلاد، ما لا يعيد إنتاج البلاد. والمصارف بسبب التجزئة المصرفية مفلسة بنيوياً أينما كانت. مصارفنا أثريت من الإفلاس. والمفلس يجب أن يخضع لسلطة القضاء الوطني. وبما أن الدَّين عندنا داخلي بامتياز، فلا حاجة لنا إلى مؤسّسات دولية. المشكلة داخلية وتحلّ داخلياً ولا حاجة لنا إلى المؤسسات الدولية الناهبة. فلا الدين بخارجي، ولا حاملو سندات الخزينة بغرباء. فلماذا الإتيان بمن هدفه تكثيف ومضاعفة الهدر واستلاب الطاقات الإنتاجية التي تهدد الوجود البيئي والاجتماعي؟ المعادلة هنا بسيطة للغاية. فالمصرف المفلس يجب أن يُقفل. أما الودائع فهي محفوظة بضمانات وائتمانات طويلة الأمد ويعاد رسملتها من الطاقة الإنتاجية الكامنة في البلاد.
العملة اللبنانية كانت خردة وكذلك سندات الخزينة منذ عام 1990. أما هجمة شركات التصنيف ثم وزارة الخزانة الأميركية فهي خوّة ترد في سياق الهجمة القائمة على المنطقة ككل. وهي جزء من الصراع العالمي المشتعّب بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. أما التهويل بالجوع مع وقف السيولة، فهو أيضاً من أدوات الهجمة الحالية. ولبنان لن يجوع والأزمة يمكن حلّها بمدى جدية عمل الكيان السياسي على حلّ التركيبة المصرفية القائمة، وضخّ السيولة وإعادة الارتباط بالاقتصاد السوري الأكثر ارتكازاً على قدرات ذاتية لتأمين السلع الضرورية.

*باحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي