حسناً! لقد حان الوقت لوضع الشعارات الشعبوية جانباً، وبدء الحديث الجدّي لإيجاد الحلول العملية وتنفيذها في معرض إدارة الأزمة.من الواضح أن عمليّات «الهندسات المالية» سمحت للمصارف بالحصول على أرباح طائلة، عبر معدّلات فائدة ربوية عالية سدَّدها البنك المركزي ووصلت في بعض الأحيان إلى 40%. وتقاسمتها المصارف مع كبار المودعين، أي العملاء الأكثر ثراءً، وهم نحو ثلاثة من أصل كلّ ألف مودع، استفادوا من معدّلات فائدة فاحشة تصل إلى 30%. وطبعاً، لا يوجد أي مبرّر لتحميل دافعي الضرائب اللبنانيين هذه المعدّلات العالية جدّاً من الفائدة!
في مطلق الأحوال، لست هنا لإلقاء اللوم على أحد، لكن كان يُفترض تضمين هذه الأرباح، التي حصدتها المصارف على مدار السنوات الثلاث الماضية، في الموازنة العامّة بوصفها نفقات عامّة، وهو ما لم يحصل أبداً ولم يطالب به أحد.
تصويب الوضع الراهن يحتّم إعادة هذه الأرباح الفاحشة غير المشروعة إلى دافعي الضرائب اللبنانيين. وعملياً، يمكن تحقيق ذلك على مدى 5 إلى 7 سنوات لتجنّب تعثّر أي مصرف بنتيجتها. على أن تتبعها، إجراءات قانونية لاستعادة المكافآت غير المستحقّة التي حصل عليها مدراء المصارف من هذه العمليّات.

أنجل بوليغان - المكسيك

ما نطرحه من آليات ليس إلّا المسار الطبيعي في العمل المصرفي، فيما لو كانت المصارف اللبنانية لديها مجالس إدارة مستقلّة عن المدراء التنفيذيين، وتمارس دورها الرقابي الفعلي عليهم. في وضع سليم، يتشكّل جزء من مكافآت كبار المدراء من حقّهم بالاكتتاب بأسهم في المصرف، على أن تنتقل إليهم ملكية هذه الأسهم بعد 3 أو 5 سنوات، في حال لم يرتكبوا أخطاءً جسيمة خلال تأدية وظيفتهم.
هذا الأمر مستبعد في الحالة اللبنانية نظراً إلى المخاطر التي تعرّضت لها المصارف نتيجة عمليات «الهندسات المالية». لكن عندما يستقرّ الوضع، يفترض إطلاق عملية إصلاح شامل لآلية الحوكمة في المصارف اللبنانية، تقضي بإنشاء مجالس إدارة مستقلّة على رأسها رئيس مجلس إدارة مستقلّ، ليتمكّنوا من الإشراف على عمل المدراء التنفيذيين ومراقبة أدائهم، والتأكّد من عدم قيام نموذج «مادوف» مجدّداً.
أمّا المودعون الذين استفادوا من الفوائد الفاحشة، فهؤلاء أيضاً لا ينبغي إعفاؤهم من المشاركة في الإجراءات الإصلاحية، بحيث يجري إخضاع حساباتهم المُضخّمة نتيجة عمليّات «الهندسات المالية» لقصّ شعر، أو ضريبة مؤجّلة، أو إعطائهم أسهماً في المصارف توازي قيمة هذه الأرباح، أو غيرها من الإجراءات التي لا مهرب منها لتطهير «نموذج بونزي» اللبناني القائم أو ما يُعرف بـ«المخطّط الهرمي».
على سبيل المثال، من أودع 10 ملايين دولار قبل 10 سنوات وحصل على فائدة بمعدل 12%، بات يمتلك اليوم 31 مليون دولار نتيجة الفائدة التراكمية. وبالتالي، إخضاع حسابه الحالي لقصّ شعر بنسبة 50% سيقلص قيمة وديعته إلى نحو 16 مليون دولار، وهو ما كان سيحصل عليه فيما لو كان مستفيداً من معدّل فائدة يراوح 5% على مدى السنوات العشر الماضية، وهذا المعدّل لا يزال، بكلّ الأحوال، مساوياً أو أعلى من معدّلات الفائدة العالمية. طبعاً، لن تكون تجربة مُمتعة، ولكنّها ليست نهاية العالم أيضاً، لا سيّما إذا كانت بهدف إنقاذ البلاد. أمّا الذين لا يحبّذون أي إجراء مماثل؛ فليستيقظوا من سُباتهم. لأن الإجراءات الإصلاحية لا مهرب منها، خصوصاً أن الودائع باتت مجرّد حسابات رقمية، والأموال المجاهر بها أصبحت في مهبّ الريح.
كلّما استمررنا في إنكار الواقع بدلاً من إغلاق كلّ منافذ تهريب الأموال من البلاد كلما اتسعت دائرة الإجراءات الإصلاحية لتطاول صغار المودعين


حالياً، لم يعد هناك من جدوى في الخوض في جدال حول أهمّية هذه الإجراءات من عدمها، فمع تسارع الأحداث المرتبطة بالأزمة، انتقل النقاش إلى مرحلة تحديد قيمة الودائع التي تطاولها عمليّات قصّ الشعر. فهل تنحصر في الودائع التي تتخطّى قيمتها المليون دولار؟ أم تجرف حسابات المودعين الصغار أيضاً؟ السؤال الرئيس المطروح هو ما إذا كان عادلاً تحميل المودعين الصغار، الذين لا تتجاوز معدّلات الفائدة التي يحصلون عليها نسبة 4%، وزر الأزمة أسوة بالمودعين الكبار؟
عاجلاً أم آجلاً، ستشرّع المصارف أبوابها مجدّداً، وسيتهافت العملاء لسحب أموالهم، فهل ستعمد المصارف على إقناع المودعين الصغار بعدم سحب مدّخراتهم الضئيلة، فيما يسهّلون للمودعين الكبار تحويل أموالهم إلى سويسرا عبر «خزعبلات» مُعتادة ووسائط غير عادلة. هل يريدون أن يحصل ذلك حقّاً في ظل انتفاضة شعبية عارمة؟ حسناً، التوقّف عند مشهد الشارع الهائج، والتحديق في الغضب الظاهر على وجه مليوني شخص اجتاحوا الطرقات مطالبين بحقوقهم الأساسية، يدفعني للتساؤل عن ردود فعلهم وحدّتها تجاه إجحاف المصارف؟
كلّما استمررنا في إنكار الواقع بدلاً من إغلاق كلّ منافذ تهريب الأموال من البلاد كلما اتسعت دائرة الإجراءات الإصلاحية لتطاول صغار المودعين. أمّا إذا نجح القطاع المصرفي في اعتراض عمليّات تهريب الودائع كافّة، فقد تنحصر الإجراءات على الودائع الكبرى مع تجنيب المودعين الصغار الأضرار.
من هنا، البند الأوّل على جدول أعمال الحكومة يفترض أن ينصّ على تنفيذ «ضوابط على رأس المال» فوراً، لأن السماح للاعبين الكبار بالهروب وتحميل المودعين الصغار العبء الأكبر، سيعرّضانهم للمساءلة من الشعب.
لا شكّ أنني لا أرغب بأن أكون مكانهم في هذه الحالة.

* مصرفي متقاعد، باحث في جامعة هارفرد