عام 1965، افترض العالم والباحث I.J. Good أن الآلات ستمتلك في المستقبل الذكاء الكافي لتجعل نفسها أكثر ذكاءً، وعندها ستجد المزيد من الفرص للتطوّر والتحسّن، وبالتالي ستجعل الذكاء البشري وراء ظهورها لمسافات بعيدة. وهذا ما أطلق عليه العلماء اسم انفجار الذكاء (Intelligence Explosion). وبالفعل لم يحدث يوماً أن شهدت البشرية مرحلة أكثر تطوراً في مجال الذكاء الاصطناعي مثلما تشهده الآن، فلا يكاد يمرّ يوم من دون أن يحدث تطوّر جديد في هذا المجال، وخلال العقدين الأخيرين، كثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته كعلم قد يصنع مصيراً جديداً للبشر. ولكن، هل سيغيّر الذكاء الاصطناعي حياتنا نحو الأفضل أم نحو الأسوأ؟ هل سيجعل حياتنا أكثر سهولة أم سيزيدها تعقيداً؟ وما هو مستقبل البشرية في ضوء هذه الثورة الصناعية الرابعة؟ وهل سيكون الذكاء الاصطناعي الابتكار الأخير الذي سيقضي على البشرية؟
أنواع الذكاء الاصطناعي
يُعرّف الذكاء الاصطناعي بأنه سلوك وخصائص معيّنة تتميّز بها البرامج الحاسوبية تجعلها تحاكي قدرات البشر الذهنية وأنماط عملها، مثل القدرة على التعلّم والاستنتاج والتأقلم مع أوضاع مُستجدّة. وقد بدأ هذا العلم يشقّ طريقه في تطبيقات عدّة، كالتشخيص الطبّي ومعالجة اللغات الطبيعية وترجمتها وتمييز الصور وتحليلها والتحكّم الآلي وغيرها الكثير.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

يقسّم الذكاء الاصطناعي إلى ثلاث فئات: أوّلاً، الذكاء الاصطناعي الضعيف (Narrow AI) الذي يركّز على مهمّة واحدة ويفتقد القدرة على التأقلم والتعلّم الذاتي (Self Learning). ثانياً، الذكاء الاصطناعي القوي (AI True) الذي يحاول أن يُحاكي دماغ الإنسان، وسيكون هذا النوع قادراً على أداء معظم المهام التي يُقوم بها الإنسان مثل السيّارات الذاتية القيادة التي تتطوّر أنظمتها الآلية، بحيث ننتج سائقين آليين يستطيعون التحكّم والاستجابة بطريقة ذكيّة تشبه استجابات الإنسان للمؤثّرات المختلفة على الطريق. ثالثاً، الذكاء الاصطناعي الخارق (Super AI) الذي يفوق العقول البشرية في كلّ المجالات تقريباً، بما في ذلك الإبداع العلمي والمهارات الاجتماعية. ويشكّك بعض العلماء في إمكانية الوصول إلى هذا المستوى، بينما يرى آخرون إمكانية تحقّقه، ولكن ينبّهون إلى ضرورة الاستعداد له منذ الآن ومواءمة أهدافه مع الأهداف الخيّرة للبشرية، وهم يعتبرون أن حضارتنا ستزدهر إذا فزنا في السباق بين القوة المتنامية للتكنولوجيا والحكمة التي ندير بها هذه التكنولوجيا من خلال دعم أبحاث سلامة الذكاء الاصطناعي (AI Safety).
وقد أولت دول العالم، وخصوصاً المتقدّمة، عناية خاصّة بهذا الموضوع، وأعدّت له خططاً مستقبليّة ورصدت له موازنات ضخمة واستقطبت الباحثين من شتّى أنحاء العالم، فقد خصّصت الصين التي تتنافس مع الولايات المتّحدة على المركز الأول مبلغ 22 مليار دولار على مدى خمس سنوات، كذلك رصدت فرنسا مبلغ 1.5 مليار يورو لصالح مشاريع الأبحاث في الذكاء الاصطناعي، وأيضاً بدأت دول عدّة الاستعداد لهذه المرحلة المقبلة من التطوّر في هذا المجال.

التوقّعات المستقبلية
انقسم الباحثون في علم الذكاء الاصطناعي في تقييمهم للتوقّعات المستقبلية إلى فريقين؛ واحد متفائل والآخر متشائم. ففي حين يرى المتفائلون أن الذكاء الاصطناعي قد يساعد في التصديّ للكوارث وحوادث المرور، وأنّه سيحسّن حياة البشر في مناحي الحياة كافة، من خلال منحهم قدرات حسيّة خارقة مثل السمع والبصر والمشي لأصحاب الحاجات الخاصّة، كذلك في الطب التشخيصي ستمكّننا هذه التكنولوجيا من الحصول على إباحة تسلسل الجينوم وحفظ التفاصيل الدقيقة للسجّلات الطبية وتحسين طرق العلاج وتطوير الأدوية. كذلك يمكنه في مجال معالجة اللغة الطبيعية (NLP) مساعدة ملايين البشر الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة، وبالتالي لا يستطيعون الحصول على المعلومات، وذلك من خلال إعطائهم المعلومات المناسبة والإجابة عن استفساراتهم المطروحة بلغتهم الطبيعية المحكية.
أمّا التهديد الأبرز الذي يُطرح فهو: هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي، وبالتحديد الروبوتات، وظائفنا؟ وما هو مستقبل المهن، وما هي التغييرات التي يمكن أن تطرأ عليها؟ يعتقد بعض الباحثين أن فكرة الرجل الآلي الخارق التي طُرحت في ثمانينيات القرن الماضي من خلال أفلام الخيال العلمي (Science fiction)، والتي تتحدّث عن سيطرة وحكم الرجال الآليين عام 2029 ستأخذ نصيبها من الوجود الفعلي في المستقبل القريب جدّاً، وستستحوذ على وظائف 800 مليون عامل في العالم عام 2030. وهو ما كشفت عنه دراسة شركة ماكينزي العالمية التي أجريت العام الماضي في 46 دولة وشملت 800 مهنة. وقد أوضحت الدراسة أن ثلث القوى العاملة في الدول الغنية مثل الولايات المتّحدة وألمانيا قد يحتاج إلى إعادة تدريبه على وظائف أخرى.

قضايا أخلاقية
في ما يلي بعض القضايا الأخلاقية التي ينبغي التطرّق إليها عند الحديث عن مستقبل الحياة في ضوء تطوّر علم الذكاء الاصطناعي.

البطالة: ماذا سيحدث عند أتمتة (Automation) غالبية الوظائف؟
بما أن الذكاء الاصطناعي وفّر وسائل تقنية لأتمتة الأعمال والوظائف، فهو بالتالي وفّر مساحة أكبر للناس للقيام بأدوار أكثر تعقيداً والانتقال من العمل الجسدي الذي سيطر على عالم ما قبل الصناعة إلى العمل المعرفي الذي يميّز العمل الاستراتيجي والعمل الإداري في مجتمعنا المعولم.
على سبيل المثال، ما هو مصير ملايين عمّال الشحن في الولايات المتّحدة إذا أصبحت الشاحنات ذاتية القيادة؟ ومن جهة أخرى، إذا نظرنا إلى انخفاض خطر وقوع الحوادث بسبب المركبات الذاتية القيادة، فإن الشاحنات الذاتية القيادة تصبح خياراً أخلاقيّاً.

فجوة عدم المساواة: كيف ستتوزّع المداخيل الناتجة عن عمل الآلات بشكل شبه مستقل؟
يعتمد نظامنا الاقتصادي على موضوع التعويض مقابل المساهمة، والذي غالباً ما يتمّ تقييمه بالأجر بالساعة. ولا تزال غالبية الشركات تعتمد على العمل المأجور بالساعة عندما يتعلّق الأمر بالمنتجات والخدمات. ولكن مع استخدام الذكاء الاصطناعي، سيقلّ بشكل كبير الاعتماد على القوى العاملة البشرية، وبالتالي ستذهب العائدات إلى عدد أقل من الناس، وهذه الفجوة ستأخذ في الاتساع حيث يأخذ أصحاب الشركات والمؤسّسون جزءاً كبيراً من الفائض الاقتصادي الذي يخلقونه، وهنا يُطرح السؤال الكبير كيف سنهيكل اقتصاداً عادلاً في مرحلة ما بعد العمل (Post-Labor economy).

التأثيرات والتفاعلات الإنسانية: كيف ستؤثّر الآلات على سلوكنا وتفاعلنا؟
أصبحت البوتات الذكيّة الصناعيّة (AI bots) أفضل وأفضل في نمذجة الحوار والعلاقات الإنسانية. في عام 2015 فاز بوت يحمل اسم (Eugene Goostman) في مسابقة (Turning Challenge) للمرّة الأولى. واستطاع البوت إيهام أكثر من نصف المتابعين البشر بأنهم كانو يدردشون مع إنسان وليس بوتاً صناعياً. هذا الإنجاز هو مجرّد بداية عصر سنقوم فيه بالتفاعل بشكل متكرّر مع الآلات كما لو أنهّم بشر عاديّون، سواء في خدمة الزبائن أو في المبيعات.

الغباء الاصطناعي: كيف نحترِس من الأخطاء؟
يأتي الذكاء عادة من التعلّم، سواء للإنسان أم الآلة. بالنسبة إلى الآلة، يكون هناك مرحلة من التدريب والتعليم للنظام من خلال الأمثلة (Learning from examples) قبل أن يدخل مرحلة الاختبار من خلال أمثلة جديدة لم يتمّ التعرّف إليها مسبقاً. ومن الواضح أن مرحلة التدريب والتعليم لا يمكن أن تغطّي كلّ الأمثلة الممكنة، وهو ما قد يوقع النظام الآلي في أخطاء يمكن للبشر أن يتفادوها.

الروبوتات العنصرية: كيف يمكننا إزالة التحيّز الذي يمكن أن ينتج عن الذكاء الاصطناعي للآلات؟
على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي للآلات يؤمّن سرعة وقدرة معالجة تتجاوز بكثير قدرة البشر، إلّا أنه لا يمكن الوثوق بإنصافها وعدم تحيّزها. على سبيل المثال تعتبر شركة (Google) وشركتها الأم (Alphabet) أحد رياديي الشركات في استخدام الذكاء الاصطناعي، كما هو واضح في خدمة (Google Photo)، حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي للتعرّف إلى الأشخاص والكائنات والمشاهد. وهنا قد يحدث نوع من الأخطاء أو التحيّز ضد السود مثلاً في موضوع التنبّؤ بالمجرمين.

الأمن: كلّما أصبحت التكنولوجيا أكثر قوّة، أمكن استخدامها أكثر لغايات جيّدة أو ضارّة.
هذا لا ينطبق فقط على الروبوتات المُنتجة مكان الجنود البشر أو الأسلحة الذاتية الاستخدام، بل أيضاً على أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تحدث أضراراً إذا تمّ استخدامها بشكل مؤذٍ، وهنا يصبح موضوع الأمن السيبراني أكثر أهمّية. ففي النهاية نحن نتعامل مع نظام أسرع وأكثر قدرة من البشر بأضعاف كثيرة.

العواقب غير المقصودة: ماذا لو تحوّل علم الذكاء الاصطناعي نفسه ضدنا؟
عندما تتحدّث عن آلة فلا معنى لنيّة الشر بداخلها أو لنيّة الخير، وإنما المقصود هو احتمال عدم فهم السياق الكامل المطلوب من الآلة. على سبيل المثال، تخيّل نظام ذكاءٍ اصطناعي متقدّم لعلاج السرطان والقضاء عليه. بعد الكثير من البرمجة والأتمتة، يمكن أن يبتكر صيغة تؤدّي في الواقع إلى نهاية السرطان، ولكن عبر قتل كلّ شخص على وجه الأرض. فنظام الذكاء الاصطناعي حقّق هدفه «لا سرطان» بكفاءة عالية ولكن بغير ما قصده البشر.

التفرّد والتميّز (Singularity): كيف نبقي سيطرتنا على نظام ذكي معقّد؟
يُعتبر البشر سادة الموجودات وعلى رأس قمة السلسلة الوجودية، وذلك ليس بسبب عضلات قويّة يمتلكونها أو أسنان حادّة لديهم، بل بسبب ذكائهم وبراعتهم وإبداعهم، وهنا يُطرح سؤال خطير حول مستقبل الإنسان نفسه في ضوء تفوق الذكاء الاصطناعي، هل سيكون له ميزة وتفوّق علينا يوماً ما؟ وعندها لا يكفي فقط سحب القابس الكهربائي منه، لأنه سيستبق هذا التحرّك ويُدافع عن نفسه!

هل نحن أذكى المخلوقات؟
الذكاء البشري هو إلى حدّ اليوم أقوى وأهم ذكاء بيولوجي معروف، ولكن موقعنا في التاريخ قد لا يكون أننا أذكى المخلوقات الموجودة، بل كوننا أول المخلوقات الذكية الموجودة على سطح هذا الكوكب. إن مستقبل الذكاء الاصطناعي هو بالتأكيد أفضل بكثير من ماضيه، وربما ينتهي به الأمر إلى لعب دور حاسم ومصيري في الحضارات المستقبلية، وعلى نطاق أوسع بكثير من كوكبنا هذا، على غرار الدور الذي لعبه الذكاء البشري في الحضارات الماضية والحاضرة والدور الذي سيلعبه مستقبلاً.
وللأسباب عينها، فإن الموجودات الاصطناعية الذكية القابلة للتطوير والتأقلم الذاتي يمكن أن يكون لها أيضاً، وبشكل متساو الأثر المهم في الحضارات المستقبلية. ما هو مهم وأساسي، ليس شكل هذا التطور وحجمه، بل القيم التي سترتكز عليها هذه الحضارات.

* لائحة المراجع
2 Good, I. J. (1965), Franz L. Alt; Morris Rubinoff, eds., "Speculations Concerning the First Ultra intelligent Machine", Advances in Computers, Academic Press, 6: 31–88,
The promise and challenge of the age of artificial intelligence, James Manyika and Jacques Bughin, 2018
Julia Bossmann, Director, Strategy, Fathom Computing, world economic forum

* أستاذ جامعي وباحث أكاديمي