كم من حقائق لا تُصدّق في هذا العالم، جملة قالها حكيم ذات مرّة لعلها أكثر ما تنطبق على إيران، التي تتوعد أعداءها بمفاجآت، يُلمَّح إلى بعضها في أوساط دوائر الاستخبارات والحرس في طهران، يرجح أن كثيراً من المواطنين الإيرانيين داخل الجمهورية الإسلامية نفسها لا يمكنهم أن يصدقوها.صحيح أن كثيرين من قادة القوات المسلحة الإيرانية سبق أن توعدوا بأمور، يمكن أن تبدو للمواطن العادي كأنها تهويل أو حرب دعائية نفسية، وبينها المناورات وآخر منجزات الصناعة العسكرية التي تعلنها إيران بين الحين والآخر. غير أن العسكريين في الجهة المقابلة يقرأون في هذه التهديدات تلميحات إلى نوعيات جديدة من الأسلحة باتت في حوزة إيران التي يدرك خبراء الشأن الإيراني أن ما خفي منها أعظم.
ولعل آخر ما تتداوله أوساط الاستخبارات والحرس في طهران، حديث عن صاروخ جديد قيد التجربة، «سيهتز له مجمع التصنيع الصاروخي في العالم». وتفيد المعلومات بأن الانفجار الذي قتل فيه أبو البرنامج الصاروخي الإيراني حسن طهراني مقدم في ١٢تشرين الثاني الجاري إنما كان تجربة في إطار عملية تصنيع هذا الصاروخ (الذي تحدثت أنباء عن أنه باليستي)، مشيرة إلى أن دويه سمع في طهران، رغم أنه وقع في قاعدة عسكرية تبعد عشرات الكيلومترات عن العاصمة الإيرانية. ويفيد العالمون بأن هذا الانفجار إنما أخّر الانتهاء من الفترات التجريبية لمدة أسبوعين فقط، مشيرين إلى أن هذا الصاروخ لن يُكشف عنه إلا في حال اضطرار إيران إلى استخدامه. (يشار إلى أن إيران استخدمت مرات عديد أسلحة جديدة في مناوراتها، لا لشيء، لكن لإبلاغ الأميركيين والإسرائيليين بامتلاكها أسلحة كهذه).
وإلى جانب الحديث القديم عن أن السواحل الملاصقة لمضيق هرمز مفخخة بشكل أن الإيرانيين قادرون على ردم هذا المضيق بكبسة زر عند الحاجة، يجري الحديث في الأوساط نفسها عن مستوى متقدم جداً بلغته إيران في عالم الحرب الإلكترونية، «كأن تستفيق إسرائيل على سبيل المثال فتجد كل راداراتها معطلة، أو كل منصات إطلاق الصواريخ لا تعمل». أو أن تحصل حركة عسكرية في أماكن غير متوقعة، مع إشارة إلى الوجود العسكري الإيراني في البحر الأحمر. وهنا لا يُستبعَد أن تكرر طهران تجربة إرسال بوارج إلى السواحل السورية في الأسابيع المقبلة، على غرار البارجتين اللتين عبرتا قناة السويس إلى المتوسط فور سقوط نظام الرئيس المصري حسني مبارك وقامتا بزيارة علنية لهذه السواحل.
في هذا السياق، حصل في طهران قبل نحو 10 أيام تطور مفصلي علني في الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية غفل الإعلامان الغربي والعربي عنه. والمقصود هنا خطاب للمرشد علي خامنئي أدلى به في ١٠/ ١١/٢٠١١، أكد فيه «أننا لسنا من أهل الاعتداء على أي شعب أو بلد. إننا لا نبادر أبداً إلى حرب دامية، وقد أثبت الشعب الإيراني هذا، لكننا شعب نرد بكل ثبات واقتدار على أي اعتداء، بل على أي تهديد»، مضيفاً أن «كل من تخطر بمخيلته فكرة الاعتداء على الجمهورية الإسلامية يجب أن يعدّ نفسه لتلقي صفعات قوية وقبضات فولاذية من الشعب الإيراني المقتدر، من القوات المسلحة، ومن جيش الجمهورية الإسلامية ومن حرس الثورة الإسلامية ومن التعبئة العامة، ومن وراء كل هؤلاء الشعب الإيراني الكبير. وليعلموا، ولتعلم أميركا، وليعلم عملاؤها، وليعلم كلبها الحارس لها في المنطقة الكيان الصهيوني، أن رد الشعب الإيراني على كل اعتداء وتطاول، بل على أي تهديد، سيكون رداً يحطمهم ويدمرهم من الداخل».
أهمية هذا الحدث تنبع من عوامل عديدة، بينها أنها المرة الأولى التي يتولى فيها المرشد بنفسه مهمة الرد على التهديدات الإسرائيلية والأميركية، وأنه فعل ذلك خلال حفل تخريج دفعة من ضباط الحرس الثوري في كلية الإمام علي العسكرية في طهران. وبالتالي، هو تحدث بصفته العسكرية، كقائد أعلى للقوات المسلحة، لا بصفته الدينية كمرجع، ولا بصفته السياسية باعتباره يقف على أعلى هرم الدولة، علماً بأن منصبه العسكري هذا إنما يستتبع كونه الولي الفقيه. ولعل أهم ما في الخطاب إشارته إلى أن إيران لن ترد فقط على «كل اعتداء»، بل على «أي تهديد».
مصادر وثيقة الاطلاع على ملابسات هذا الخطاب تقول إن «خامنئي كان يخوض معركة تعتقد طهران أنها فتحت باتجاهين: إيران وسوريا، تعويضاً عن الخسارة العسكرية الأميركية الكبرى في أفغانستان والعراق»، مشيرة إلى أن «هناك عملاً يجري ليل نهار على اتفاق استراتيجي أميركي أفغاني فشلت واشنطن في انتزاعه من (الرئيس حميد) قرضاي. وهناك أيضاً الرفض العراقي لإعطاء أي حصانة لمن يمكن أن يبقى من جنود أميركيين في العراق. والأميركي يحمّل إيران مسؤولية هذين الأمرين، ومن هنا حنقه على طهران، وخاصة على الحرس الثوري».
ولعل ما زاد من هذا الحنق الأساليب الساخرة التي تعامل بها الحرس مع الأميركيين في هذين البلدين. ومن الأمثلة على الأساليب الساخرة تلك، ما رشح عن قيام قائد فيلق القدس قاسم سليماني قبل سنوات بزيارة للمنطقة الخضراء، التي أدخله إليها أحد كبار القادة العراقيين. وما إن عاد إلى طهران، حتى بعث برسالة نصّية إلى قائد قوات الاحتلال آنذاك ديفيد بترايوس يتحدث فيها عن تفاصيل دقيقة داخل هذه المنطقة لا يلحظها إلا زائرها، ما سبب إرباكاً داخل القوات الأميركية التي أجرت تحقيقاً في الحادثة. وتفيد التسريبات بأن بترايوس فاتح الشخصية العراقية بزيارة سليماني تلك في محاولة للإيحاء بأنه علم بأنها هي من أدخله، من دون أن يقول ذلك صراحة. وهناك رواية أخرى عن أن سليماني، بعدما أصر بترايوس على أن يجلس مقابله على الطاولة، خلال عمليات التفاوض، مع القيادة العراقية وسليماني نفسه ممثلاً لإيران، بعث للجنرال الأميركي برسالة نصية أكد له فيها أن السفير الإيراني لدى بغداد آنذاك من ضباطه، والسفير الذي سبقه والسفير الذي سيأتي بعده، فلا داعي للإصرار على وجوده المباشر.
المصادر السالفة الذكر تشير إلى أن خطاب خامنئي جاء في سياقين، إقليمي ودولي، جديدين: هناك أولاً انزعاج صيني وروسي، من الولايات المتحدة في أمور شتى، بينها أن الاتفاق غير الموقع مع أفغانستان الذي يعتزم إبقاء قواعد أميركية في هذا البلد بعد الانسحاب في ٢٠١٤، فضلاً عن الدرع الصاروخية التي تُنصب في تركيا، في مقابل «اتفاق استراتيجي» وقعه نائب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي باقري كياني خلال زيارته لموسكو في 8 تشرين الثاني، عاد وأكده نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل مارغيلوف في زيارته لإيران في 11 من الشهر نفسه. وهناك التغير الحاصل في موازين القوى التقليدية في البحور الثلاثة، العرب والأحمر والمتوسط، حيث كانت الولايات المتحدة تسود بالمطلق.
التقديرات في أروقة الاستخبارات والحرس، على ما تفيد التسريبات، أن كل ما يحصل من الأميركيين وحلفائهم العرب في المنطقة لن يفضي إلى أي هجوم عسكري من إسرائيل ولا من أميركا على إيران، ولا إلى ضربة مباشرة لسوريا، بقدر ما هي محاولة لوقف تسارع تغيير موازين القوى في الخليج لمصلحة إيران. هناك مجموعة من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا من هذا الباب: من وما الذي أدى إلى مد قنوات المن والسلوى بين السعودية وقطر؟ لماذا أخذ مجلس التعاون الخليجي على عاتقه مهمة التصدي لسوريا وإيران؟ لماذا سُحبت هذه الورقة من أنقرة وخرج رئيس الوزراء التركي رجب طيب أدوغان يندب حظه أن لا نفط في سوريا؟
الاعتقاد السائد في طهران أن واشنطن تعمل على إيجاد نوع من التوازن بين إيران ومجلس التعاون الخليجي. عملياً بين إيران والسعودية التي جرى التوافق على أن يكون القطري وكيلها. والفكرة من وراء ذلك أن يكون هذا المجلس كفة الميزان التي توقف تمدد النفوذ الإيراني في كل الاتجاهات.
أخيراً، وفي شأن حديث خامنئي عن أن إيران سترد على «أي تهديد»، تفيد المصادر نفسها بأن المقصود بهذا القول أن «الرد الإيراني لن يكون بالضرورة، أو لن يقتصر فقط، على الجهة التي نفذت الاعتداء، بمعنى أنه إذا ضربت إسرائيل منشأة نووية فترد إيران بقصف ديمونة، بل إن الأضرار ستطاول كل طرف يمتلك أداة أو ورقة تمثّل تهديداً لإيران، سواء تكلم أو لا، أو قام بفعل ما أو لم يفعل. هي رسالة من أعلى سلطة في إيران إلى كل القواعد العسكرية في المنطقة، ولو كانت في بلاد صديقة وشقيقة».
التحليل في الأروقة المعنية في طهران لكلام خامنئي يشير إلى ما يعرف بـ«قاعدة ربط النزاعات». شيء شبيه بالقاعدة التي قام عليها حلف شماليّ الأطلسي والتي تفيد بأنه في حال حصول أي اعتداء من أي دولة عضو في تحالف معادٍ على أي من أعضائه، يمكن رد الأطلسي أن يطال أي جزء من التحالف المقابل، ولن يقتصر على الجهة التي نفذت الاعتداء. وفي الحالة الإيرانية، فإن طهران في حالة تحالف مع سوريا وحزب الله وحماس، وبالتالي تعلن الجمهورية الإسلامية، عبر خطاب خامنئي، أن أي اعتداء يطاول أياً من تلك الأطراف، فإن الرد لن يقتصر على الجهة المعتدية، بل على كل ما ومن يُعَدّ أنه يمثّل تهديداً.
وبغض النظر عن صدقية ما يُكشف عن قدرات عسكرية إيرانية، يقال إنها تعود لسنوات خلت، ذلك أن طهران تحتفظ لنفسها بأوراق كثيرة تحت الطاولة، تبدو ثقة الإيرانيين بأنفسهم وقدراتهم لافتة. ولعل في مقولة مستشار خامنئي، محمد جواد لاريجاني، خير دليل: «لسنا من يبدأ الحروب لكننا بالتأكيد من ينهيها».



«الجرّة» مع تركيا

يبدو أن إيران لم تقرر بعد كسر الجرة مع تركيا، بعد مواقف الأخيرة في ما يخص الأزمة في سوريا والتصعيد الذي يقوده رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان؛ فهي لا تزال تحاول ثني قادة حزب العدالة والتنمية في اندفاعتهم الإقليمية تلك، وإن كان هناك من يبدو متشائماً من خيار كهذا. وفي هذا السياق، زار رئیس لجنة الأمن القومي والسیاسة الخارجیة في البرلمان الإيراني علاء الدین بروجردي أنقرة الأسبوع الماضي، تمهيداً لزيارة من المرتقب أن يقوم بها رئيس البرلمان علي لاريجاني للعاصمة التركية، تصب في الاتجاه نفسه الذي تسعى إليه طهران.
وفي السياق، تتحدث المعلومات الواردة من طهران عن إعداد لزيارة من المتوقع أن يقوم بها وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي لدمشق في الفترة المقبلة.