الدمازين | رغم أن اتفاقية السلام ببروتوكولاتها المتعددة، وبنودها الكثيرة الى درجة الملل، حسمت أوضاع المقاتلين الذين شاركوا إلى جانب الحركة الشعبية لتحرير السودان في الحرب الأهلية على نحو محدد، ونصت على أن يجري إدماج بعضهم في القوات النظامية السودانية في مقابل تسريح البعض الآخر بعد تعويضهم مالياً وإعادة تأهيلهم في الحياة المدنية، إلّا أن شياطين التفاصيل، التي كانت دائماً ما تطل طوال فترة تنفيذ اتفاقية «نيفاشا» خلال ست سنوات، نفثت في عقد ملف قوات الحركة الشعبية حتى استحال الى حقل ألغام يصعب المشي عليه. وما كاد جنوب السودان يذهب إلى حال سبيله حتى اشتعلت حرب متوقعة في جنوب كردفان بقيادة عبد العزيز الحلو، في الأسبوع الأول من شهر حزيران، لتلحقها ولاية النيل الأزرق بقيادة الوالي المقال مالك عقار، وخصوصاً أن أوضاع قوات الحركة الشعبية في هاتين المنطقتين ظلت معلقة بلا حلول، وبقيت هذه القوات قابعة في مناطق وجودها التاريخية في «كاودا والكرمك»، من دون الالتزام بنصوص بروتوكول الترتيبات الأمنية، الذي ألزمها بالانسحاب كأنها تنتظر يوماً شره مستطير. هكذا دخل محاربو الجيش الشعبي القدامى في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان في أتون حرب جديدة. وأكثر ما يخشاه المتابعون أن تتحول الحروب الفرعية إلى حرب أهلية جديدة وطويلة تستنزف موارد السودان الشحيحة، بعدما لم يكد يلتقط أنفاسه من حرب الجنوب التي أتت على أخضر البلاد ويابسها.
أما الحكومة السودانية والحركة الشعبية، قطاع الشمال، فتتبادلان الاتهامات بشأن عدم الالتزام بتنفيذ بروتوكول حسم النزاع للمنطقتين «النيل الأزرق وجنوب كردفان»، وإتمام عملية تصفية أوضاع قوات الجيش الشعبي. ويقول ضابط برتبة رفيعة في صفوف الجيش الشعبي بمدينة الدمازين، فضل عدم الكشف عن هويته لـ«الأخبار»، إن اتفاقية نيفاشا للسلام سكتت عن معالجة أوضاع منسوبي الجيش الشعبي اذا وقع انفصال جنوب السودان، والحركة الشعبية في الشمال طالبت بوضع ترتيبات جديدة لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان منذ العام الماضي، لكن المؤتمر الوطني الحاكم لم يستجب لمطالبنا. ويضيف «سنستمر في الكفاح المسلح لحين إسقاط نظام الخرطوم، وستكون العاصمة السودانية هدفاً للجيش الشعبي». يتهم الضابط في صفوف الجيش الشعبي المؤتمر الوطني الحاكم بمحاولة تجفيف قوات الحركة الشعبية في شمال السودان بقوة السلاح، فضلاً عن اتهامه الحزب الحاكم بتعطيل الترتيبات الأمنية وإفراغ الاتفاقية من محتواها. أما الحل، فلا يراه سوى في إسقاط نظام الخرطوم لمعالجة كافة القضايا السودانية، فيما يدافع عن جيش الحركة الشعبية، مؤكداً أنه «جيش ثوري، حمل السلاح من أجل قضايا سياسية عادلة، قضايا السودان كله، لا المنطقتين فقط». ويضيف «بعد الانتصار المسلح على الخرطوم، بعد تحريرها، سيُعقد مؤتمر دستوري تناقَش فيه وضعية هذه القوات». قبل أن يبعث بمناشدة إلى كافة القوى السياسية السودانية و«حركات التحرر»، يحثهم فيها على القيام بانتفاضة شعبية لتفادي الصدام المسلح داخل العاصمة السودانية الخرطوم.
من جهته، علق عضو مفوضية التقييم والتقويم ببروتوكول حسم النزاع في النيل الأزرق وجبال النوبة، الملحق باتفاقية نيفاشا، حسين ياسين، في حديث مع «الأخبار»، على تداعيات الاشتباكات في النيل الأزرق، قائلاً «الآن بعدما أشعل مالك عقار، الوالي المعزول، الحرب في الولاية فإن بروتوكول المنطقتين (النيل الأزرق وجبال النوبة) قد انتهى، ولا وجود له في كل تفاصيله التي تشتمل على الترتيبات لدمج وتسريح القوات، والمشورة الشعبية التي تحدد شكل الحكم فى الولاية».
ويضيف «النتائج الأولية للمشورة كانت تشير إلى أن معظم سكان وأهالي الولاية يريدون الفدرالية والتنمية والأمن كأساس لتحكم به الولاية، وكان ذلك بنسبة 7 في المئة من آراء أهالي الولاية، فيما اختارت مجموعة مالك عقار الحكم الذاتي للإقليم، أي انفصال الإقليم، وهذا ما دفعهم إلى إشعال الحرب، وأدى إلى نهاية هذا البروتوكول، الذي عرف أصلاً ببروتوكول حسم النزاع». ويذهب ياسين إلى القول «والآن تجدد النزاع من جديد، ولا وجود لهذا البروتوكول ولا لأي اتفاق سابق أو لاحق». وضع يدرك العديد من مقاتلي الحركة الشعبية، الذين خاضوا تجربة الحرب الأهلية، أن من شأنه جعل ولاية النيل الأزرق مسرحاً للاقتتال المتواصل، مثلما يعرفون ما يرافق الاقتتال من ويلات، وهو ما سعى العقيد في الجيش الشعبي، الصافي موسى ارباب، إلى الابتعاد عنه، فاختار أن يسلم نفسه ضمن مجموعة من ضباط الجيش الشعبي إلى السلطات الحكومية والقوات المسلحة. وعن أسباب إقدامه على هذه الخطوة، أكد ارباب لـ «الأخبار» «أنهم مجموعة من الضباط فى صفوف الحركة الشعبية كانوا عند بدء العمليات القتالية ضمن القوات المشتركة المناط بها إنفاذ الترتيبات الأمنية في الولاية، وقرروا تسليم أنفسهم للجيش السوداني ليقرر بشأننا، لأننا لم نرغب في الدخول في أتون معارك جديدة، لأن البلاد لا تتحمل أكثر من ذلك». من جهته، لم يحسم العقيد، حسين ابراهيم عبود، المنضوي في الجيش الشعبي للحركة الشعبية بولاية النيل الازرق، خياره بعد. ويروي قصته قائلاً إنه «ظل يقاتل أكثر من 13 عاماً مع الجيش الشعبي، منذ أن كان بقيادة الدكتور جون قرنق، من أجل تحقيق السودان الجديد، ومحاربة التهميش». لكنه اليوم «غير راضٍ عن أوضاعهم كمقاتلين عقب رحيل قرنق، بسبب ما لحق بهم من إهمال»، وتركهم للمجهول في الشمال. ويذهب إلى أبعد من ذلك، مهاجماً قائده الحالي ووالي ولاية النيل الأزرق المقال، مالك عقار، ويقول إنه «غير واضح معهم، ولا يطلعهم على كل التفاصيل التي تتعلق بمستقبلهم». ويرى أنه حال إيجاد طريق مناسب بالنسبة إليه لن ينضم إلى التمرد، مضيفاً «لدي أطفال أريد أن أبني مستقبلهم وأؤمن حياتهم وتعليمهم وعلاجهم، ولا معنى لحمل السلاح في مواجهة الحكومة».



خشية من التعايش مع الآخر

تسهم الرسائل، التي يتلقاها مقاتلو الجيش الشعبي وتشير إلى أن قوات الحكومة ستقضي عليهم إذا قبضت عليهم، في دفع الكثيرين منهم إلى عدم الدخول إلى المدن، وتفضيل البقاء خارجها في المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية بزعامة سالفاكير. ويرى الصحافي، قسم ود الحاج، أن مقاتلي الحركة الشعبية جرت تدريبهم وتربيتهم طوال سنوات الحرب الأهلية على أساس ثوري، وعلى عقيدة علمانية تهدف إلى تغيير كامل للأوضاع في السودان، ما يجذّر في دواخلهم النظرة إلى الآخر على أنه لا يمكن التعايش معه. ويحمّل الحركة الشعبية في دولة الجنوب والحكومة المسؤولية المشتركة عما آلت إليه الأوضاع في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.
فالحركة تركت منسوبيها من الشمال، بمن فيهم المقاتلون، للمجهول وفضلت الانفصال، رغم ما قدموه إليها من إسناد في سنوات الحرب الماضية. أما الحكومة السودانية، فيؤكد الحاج أنها لم تقم بالدور المطلوب منها في مخاطبة مخاوف أولئك المقاتلين، وطمأنتهم إلى أنهم حال انخرطوا في الحياة المدنية لن يكونوا ملاحقين، ولا مساءلين لأي سبب سابق.