باريس | لم ينجح تعتيم الـ ٤٨ ساعة الأخيرة، وما رافقه من تشويق وتكهنات متضاربة بفعل حظر نشر أي استطلاعات أو نتائج أو توقعات من قبل مؤسسات سبر الآراء، في إخراج الانتخابات الفرنسية، في دورتها الأولى التي جرت أمس، من الرتابة التي خيمت على الاستحقاق الرئاسي منذ بداية الحملة الانتخابية في تشرين الثاني الماضي. إلى غاية منتصف نهار أمس، لم تشهد مكاتب الاقتراع الإقبال المعهود في مثل هذه الانتخابات، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة ٢٨ في المئة. لكن تزايد المخاوف من أن تؤدي هذه النسبة الضئيلة من المشاركين إلى ارتفاع قياسي لنسبة الممتنعين عن التصويت، كما توقعته الاستطلاعات (راجع «الأخبار» ــ عدد ٢٠ نيسان ٢٠١٢)، دفعت مختلف الأفرقاء السياسيين إلى حشد همم أنصارهم وحث الناخبين على الانتقال الى مكاتب الاقتراع، ما أدى الى تحسن لافت في نسبة المشاركة خلال الساعات الأخيرة من الاقتراع. ووصلت النسبة إلى قرابة ٨٠ في المئة (مقابل ٨٣ في المئة في الاستحقاق الرئاسي الأخير، عام ٢٠٠٧)، لينجح بذلك تجنيد الساعات الأخيرة في خفض نسبة المقاطعين إلى أقل من ٢٠ في المئة، بعد كانت الاستطلاعات توقعت أكثر من ثلاثين في المئة. أما التفاوت في كثافة الإقبال وفي الاهتمام بالشأن الانتخابي عموماً، فقد فسره المحللون باختلاف المشهد الانتخابي للدورة الأولى هذه السنة على نحو جذري عن انتخابات ٢٠٠٧، حيث كان التنافس آنذاك محتدماً في الدورة الأولى بين نيكولا ساركوزي وسيغولين رويال وفرانسوا بايرو، الذين كانت شعبيتهم متقاربة بين ١٧ و٢٢ بالمئة. أما هذه السنة، فقد ساد الانطباع بأن سباق الجولة الأولى كان محسوماً سلفاً، لمصلحة ساركوزي وهولاند اللذين تصدرا الاستطلاعات بفارق أكثر من ١٠ نقاط عن باقي المرشحين.
وبالتالي تركزت الأنظار أكثر على النتائج التي حققها ثلاثة مرشحين آخرين، هم فرانسوا بايرو وجان لوك ميلانشون ومارين لوبان، على أساس أن موازين القوى بين هؤلاء هي التي ستحدد ملامح الصراع بين ساركوزي وهولاند في الدورة الثانية من الاقتراع (راجع الكادر أدناه).
وزاد من غموض المشهد الانتخابي تشدد السلطات الإدارية التي تشرف على الانتخابات في حظر نشر أي نتائج أو إحصاءات قبل الإغلاق النهائي للمكاتب الانتخابية في الثامنة مساء بتوقيت باريس. وكانت وسائل الإعلام الفرنسية قد احتجت على هذا القانون في انتخابات ٢٠٠٧ لأنه يعطي السبق لوسائل الإعلام الأجنبية، وخاصة في الدول الفرنكوفونية المجاورة (بلجيكا وسويسرا بالأخص)، التي تقوم بنشر النتائج الأولية قبل ساعتين من نهاية الاقتراع. وحيال رفض السلطات تعديل هذه القاعدة الانتخابية، لجأت وسائل الإعلام الفرنسية، سنة ٢٠٠٧، إلى التحايل عليها من خلال نشر النتائج أولاً بأول على مواقعها الإلكترونية، لأن المواقع لم تكن قد أخضعت لنفس الرقابة الانتخابية. لكن لجنة الرقابة على عمليات سبر الآراء عمدت الى تشديد القانون، من خلال فرض عقوبة مالية باهظة مقدارها ٧٥ ألف يورو على كل موقع إلكتروني فرنسي يقوم بنشر النتائج قبل الموعد الرسمي لإقفال صناديق الاقتراع. وهددت اللجنة أيضاً بفرض العقوبة ذاتها على أي معاهد لسبر الآراء تمدّ وسائل الإعلام غير الفرنسية بنتائج تنشر قبل التوقيت الرسمي.
وساهم هذا التعتيم، الهادف إلى منع تأثير نشر النتائج قبل إغلاق كل مكاتب الاقتراع على خيارات الناخبين الذين يصوتون في الساعات الأخيرة من الاقتراع، في إضفاء المزيد من الغموض على المشهد الانتخابي. وكانت عمليات تقدير نسب المشاركة هي المعطى الوحيد المسموح بتداوله رسمياً، ما جعل التقديرات المتعلقة بموازين القوى الانتخابية حكراً على فئة محدودة من مسؤولي وسائل الإعلام وصانعي القرار. ووصل الأمر بلجنة الرقابة على الاستطلاعات الى حد منع الصحافيين من نشر أي تلميحات بخصوص النتائج حتى عبر موقعي التواصل الاجتماعي «تويتر» أو «فايسبوك»، ما زاد من فضول القطاع الأوسع من المتتبعين للانتخابات، ودفع الناس الى البحث عن وسائل للالتفاف على هذا التعتيم أو رصد أي مؤشرات غير مباشرة، من شأنها أن تساعد على التكهن بالاتجاهات الغالبة على الاقتراع. ومن النماذج عن ذلك، انتشار أخبار في حدود الرابعة عصراً، قبل نحو أربع ساعات من نهاية الاقتراع، عن تدفق حشود غير معتادة من الصحافيين (أكثر من ٦٠٠ مراسل صحافي ومصور) على مركز مرشح «جبهة اليسار»، جان لوك ميلانشون، في المقر التاريخي للحزب الشيوعي الفرنسي، بحي ستالينغراد، في الدائرة الثامنة عشرة من باريس، ما أدى الى انتشار شائعات فسرت هذا الإقبال الاعلامي بأن ميلانشون قد يحقق مفاجأة كبيرة.
وبعد التسريبات من وسائل الإعلام البلجيكية والسويسرية غير المعنيّة بقانون التعتيم، خرجت وسائل الإعلام الفرنسية بالنتائج الأولية للاقتراع، كاشفة تقدم فرانسوا هولاند بـ ٢٨ في المئة، يليه نيكولا ساركوزي بـ ٢٥ في المئة. بينما جاء ترتيب المرشحين الثلاثة المؤهلين للعب دور الحكم بينهما في الدورة الثانية وفق ترتيب غير مخالف لما رصدته آخر الاستطلاعات يوم الجمعة الماضي، حيث حصلت مارين لوبان على 20 في المئة، ونال جان لوك ميلانشون ١1،7 في المئة، في مقابل 8.5 في المئة لمرشح الوسط فرانسوا بايرو



فائزان و٣ حكام!


لم يخالف الفارق بين النتائج التي حققها المرشح المتصدر للدورة الأولى، فرانسوا هولاند، ومنافسه في الدورة الثانية، نيكولا ساركوزي، (قرابة ثلاثة في المئة)، توقعات الاستطلاعات التي تكهنت بأن يكون الفاصل بينهما في الدورة الأولى ما بين ٣ إلى ٤ في المئة. كانت هذه التقديرات قد أخذت في الحسبان أن أصوات الذين اقترعوا لمرشح جبهة اليسار ميلانشون وبقية مرشحي اليسار الراديكالي ستذهب في الدورة الثانية بالتأكيد الى هولاند، إن لم يكن اقتناعاً بتوجهاته السياسية التي يجدها البعض «رخوة»، فمن أجل قطع الطريق أمام فوز ساركوزي بولاية ثانية. في المقابل، تتضارب التقديرات بخصوص مصير أصوات مارين لوبان (الصورة) ومرشح الوسط فرانسوا بايرو، اللذين حصلا على أكثر من ربع الناخبين. لوبان أعلنت سلفاً أنها لن تدعو إلى التصويت لساركوزي في الدورة الثانية، تاركةً حرية الاختيار لناخبيها. ويرجح المحللون أن تتوزع أصوات من اقترعوا للوبان في الدورة الأولى بين الناخبين التقليديين الموالين لليمين المتطرف (ما بين ٩ و١٢ في المئة)، والناخبين الذين استقطبهم خطاب لوبان من بين الفئات الناقمة على السياسات الساركوزية، وخاصةً في المجال الاجتماعي والاقتصادي (ما بين ٤ و٧ في المئة). والأرجح أن الفئة الأولى ستختار التصويت لساركوزي، بينما ستفضل الفئة الثانية الاقتراع ضده، سواء بدعم هولاند، من منطلق ما يسمى «الاقتراع العقابي» أو بمقاطعة الدورة الثانية. وهنا تلتفت الأنظار الى بايرو، الذي يعدّ الوحيد الذي يستطيع مدّ أحد مرشحي الدورة الثانية بمخزون حاسم من الأصوات. لكن السؤال: من سيقنع بايرو بالتحالف معه، ساركوزي أم هولاند؟