خرجت ورقة المئة دولار أميركي بحلّة جديدة قبل أيام. ميزتان تُبرزان حداثتها: الأولى، شريط أزرق طولي يلمع بأبعاده الثلاثية لدى تحريك العملة. الثانية هي رسم لجرّة حبر تحوي جرساً؛ لونهما نحاسي، ولكن لدى تحريك الورقة يتحوّل الجرس إلى الأخضر. هذه التقنيات الحديثة التي يريد منها الاحتياطي الفدرالي الأميركي تعزيز الأمن الذي يُحيط بالسيد بنجامين فرانكلين، على سطح الورقة، قد تكون من دون أي فائدة فعلية في حال لم يُقرَع الجرس الحقيقي في واشنطن ليُنبّه ساستها الى أنهم يتوجهون بالبلاد إلى هاوية اقتصادية ومالية.
يجزم الفدرالي (وهو المصرف المركزي) بأنّ ورقة البنكنوت هذه هي الأكثر تداولاً في العالم – وربما الأكثر تزويراً. كذلك فإنّ قصّة عجز الولايات المتّحدة في إمرار موازنة عام 2014 هي الأكثر تناقلاً على ألسن الأميركيين ووسائل الإعلام العالمية. ولكن وراء هذه القصة تكمن رواية أخطر: بحلول 17 تشرين الأوّل الحالي، ستصل واشنطن إلى سقف الاستدانة المسموح به وهو 16700 مليار دولار (أي 167 مليار ورقة من فئة 100 دولار، جديدة كانت أو قديمة).
الخشية من سقف الدين هي أعظم من بروتوكول الموازنة وإعادة الروح إلى الحكومة، لسبب بسيط جداً: واشنطن هي البلد الأقوى في النظام النقدي العالمي لكونها تتحكم في مستوى عرض العملة الأساسية فيه. وفي حال وصلت إلى مرحلة عجزت فيها عن الحصول على التمويل اللازم من السوق التي أساساً تسيطر عليها، فسينشأ ما يُمكن تسميته فصام الدولار.
ربما سيتحوّل الترقّب الذي تنضح به نظرة بنجامين فرانكلين على ورقة المئة دولار إلى حالة استغراب كلّي مع حاجبين مرفوعين وفم مشدوق، وربما تتجهّم ملامحه تدريجاً ويخرج من الإطار كلياً، ويبدأ بإطلاق الشتائم – وحتى يرفع الوسطى – للقيّمين على السياسة في واشنطن. في هذه المدينة يبدو أن المصالح الشخصية للسياسيين الطموحين والمؤثرين تنمو على ظهر مصالح الأميركيين.
يشرح الصحافي مارك ليبوفيتش، الذي يُعدّ أحد المخضرمين في متابعة أحوال واشنطن، في كتابه الجديد «هذه المدينة»، تحولات كثيرة تشهدها العاصمة. يستند إلى تجربة السيناتور الجمهوري تيد كروز – الذي أثار الخصوم وحتى المعتدلين في حزبه حين حجز الكلام أكثر من 22 ساعة في الكونغرس في محاولة لإحباط مشروع الرئيس باراك أوباما للرعاية الصحية (يرفض الجمهوريون، أو المتشددون بينهم، هذا المشروع ويربطون إمرار موازنة شاملة بشرط تأجيل تطبيقه أو إلغائه كلياً).
يقول إن كروز سيكسب على الأرجح ترشيحاً للانتخابات الرئاسية عام 2016، وأنّ هذا الهدف «أضحى أعظم من تحقيق الإنجازات فعلياً، العمل الجماعي، إقرار القوانين وهي العناوين التي كان الناس يقدّرونها فعلياً في العمل السياسي».
بحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة «واشنطن بوست» مع شبكة «ABC» عن رأي الأميركيين في أزمة الموازنة مع دخولها أسبوعها الثاني، تبيّن أن 45 في المئة من المستطلعة آراؤهم يوافقون على كيفية إدارة الرئيس أوباما للأزمة، فيما 24 في المئة فقط يوافقون على تعاطي الجمهوريين مع الحالة.
صحيح أنّ أميركا بلا موازنة يعني ما يشبه الشلل الحكومي لأقوى بلد في العالم وعمل الإدارات بالحد الأدنى المتوافر، غير أنّ البلاد يُمكنها التحمّل بعد، وخصوصاً أن أوباما جزم بأنه لن يخضع للابتزاز من أقلية يمينية تجر وراءها أكثرية جمهورية في مجلس النواب لعرقلة قانون وقّعه الرئيس قبل ثلاثة أعوام ومرّره الشيوخ وانطلق العمل بآلياته فعلياً مع بدء الأميركيين المحدودي الدخل التسجيل للحصول على تأمين صحي.
الصورة نفسها يُمكن رسمها في مجال سقف الدين. المنطق اليوم هو أنّ الديموقراطيين في مجلس الشيوخ سيُعدّون قانوناً خفيفاً نظيفاً لرفع سقف الدين وتجنيب البلاد وضعاً يُشبه الإفلاس بعد منتصف الشهر الجاري.
سيوافق بعض السيناتورات الجمهوريين ــ وتحديداً الغاضبين بينهم من الشلل الذي أوقع زملاؤهم البلاد فيه ــ على هذا القانون. التساؤلات التي يطرحها المحللون هي عمّا إذا كان القانون قادراً على جمع الأصوات الستين المطلوبة؛ غير أنّهم يُشيرون إلى عدم وجود خوف كبير، خصوصاً أنّ شخصيات مثل السيناتور جون ماكين سيمنحون بركتهم.
المخضرمون الجمهوريون لا يُمكنهم المخاطرة أبعد من المغامرات السياسية التي مرّوا بها حتّى اليوم. تبقى العقدة الأخيرة في مجلس النواب الذي سيجد نفسه أمام قانون مُعدّ بتوافق الحزبين، ما سيمسح العقبة، مع العلم بأن زعيم النواب الجمهوريين، جون باينر، كان قد أوحى أخيراً بأن البلاد لن تصل إلى مرحلة عدم القدرة على الاقتراض.
ولكن ماذا يحدث تحديداً في حال لم يُرفع سقف الاستدانة، أي تمديد رخصة الاقتراض للإدارة الأميركية؟
طبعاً السيناريو خطير جداً، تحديداً بسبب الحجم الهائل للدين الأميركي. في نهاية هذا العام سيبلغ الدين 17.5 تريليون دولار، أي ما يفوق 108في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي. هذا يعني معدلاً يفوق 55 ألف دولار لكل فرد، أي إن كلّ أميركي يدين بهذا المبلغ (هذا الرقم ليس علمياً وهو بداعي الدلالة على حجم الدين الهائل).
غير أنّ سيناريوات براغماتية جرى تداولها أخيراً تفيد بأنّ الإدارة الأميركية قد تعمد إلى منح الأولوية للمتوجبات على دينها (أي الفائدة والأصول المستحقة على السندات الأميركية) أمام أي دفعات فدرالية أخرى، مثل تلك الخاصة بالضمان الاجتماعي، لتجنّب عدم القدرة على السداد.
كبار المصرفيين والمديرين الماليين حذروا من خطوة كهذه خلال لقاءاتهم مع زعماء الجمهوريين والديموقراطيين. قالوا، وفقاً لما نقلته صحيفة «وول ستريت جورنال»، إنّ خطوة كهذه تؤدّي إلى حالة من الريبة في أوساط المستثمرين، وإلى رفع أكلاف الاقتراض وإلى اضطرابات في الأسواق المالية.
الفكرة هي أنه حتى لو لم تسقط الولايات المتحدة في فخ دينها فسيتأثر اقتصادها بأكثر من مجال وتتعاظم الشكوك في صدقية وزارة الخزانة مستقبلاً.