إسطنبول | عندما تأسـس حزب العدالة والتنمية في آب 2001، كان الجميع يعرف بأن هذا الحزب سيحقق انتصاراً مهماً في انتخابات تشرين الثاني 2002 وهو ما حصل. وخرج الحزب من الانتخابات في المرتبة الأولى بنسبة 36 في المئة من مجموع أصوات الناخبين ليحصل بذلك على 66 في المئة من مقاعد البرلمان بسبب قانون الانتخابات.
وجاءت التطورات اللاحقة سريعة لتساعد الحزب المذكور على البقاء في السلطة حتى يومنا هذا لسبب رئيسي وهو الدعم الأميركي المطلق له. وساعد هذا الدعم رجب طيب أردوغان، الذي أصبح زعيماً للحزب في آذار 2003 خلفاً لمؤسـس الحزب عبد الله غول، في القضاء على المؤسـسة العسكرية، وبالتالي في الحصول على مساعدات اقتصادية ومالية كانت كافية لكسب تأييد المواطن لحزب العدالة والتنمية.
لقد حقق الحزب في هذه الفترة نجاحات اقتصادية مهمة بفضل هذا الدعم الأميركي والدولي، في مقابل بيع جميع مؤسـسات القطاع العام.
كل ذلك جعل من «العدالة والتنمية» حزباً متناقضاً بينه وبين نفسه وأفقده صبغته الأيديولوجية التي تربى عليها قادة الحزب على أيدي الإسلامي الشهير رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين أربكان. لعل فقدان هذه الصبغة هو ما دفع أربكان لاتهام تلامذته السابقين قبل وفاته منذ عامين بأنهم «باعوا القضية وتحولوا إلى أداة خطيرة بيد القوى الأمبريالية والصهيونية».
كان هذا الاتهام كافياً بالنسبة لأردوغان لتصفية كل التيارات الإسلامية التقليدية داخل الحزب، بينما شنّ هجوماً عنيفاً على كل الإسلاميين المعادين له ليحوّل بذلك حزبه إلى جمعية يرأسها هو فقط من دون معارض او منافس.
وتحول «العدالة» بذلك إلى «حزب سياسي يميني قومي محافظ، الى أن عاد الى نهجه الإسلامي بعد ظهور «الربيع العربي»، حيث يسعى الغرب منذ فترة إلى تسويق تجربة أردوغان في العالم العربي، لا سيما بعد تسلم الإخوان المسلمين السلطة في مصر وليبيا وتونس واليمن والسودان. لعل هذا ما يفسر سياسات أردوغان في موضوع سوريا.
على الصعيد الداخلي بدأ حزب العدالة يتعرض لانتقادات لاذعة، حيث تحدثت أحزاب المعارضة باستمرار عن فساد الحكومة، لا سيما في عمليات الخصخصة التي حققت أرباحاً خيالية لأتباع وأنصار ومقربين من الحزب ومن رئيس الوزراء أردوغان، الذي تحول إلى «حاكم مطلق مغرور وبلا نقاش» حسب وصف الصحافي التركي الشهير حسن جمال. وربما هذا الذي دفع رئيس الجمهورية عبد الله غول الذي أسـس الحزب، ومعه نائب رئيس الوزراء بولنت أرينج، إلى الإدلاء بتصريحات معتدلة مع الاعتذار من المتظاهرين.
ويعتقد أردوغان أن نهجه «التحريضي والاستفزازي سيساعده على زيادة شعبيته قبل انتخابات الرئاسة في آب 2014. يفسر ذلك حماسة أردوغان في موضوع التغيير الدستوري قبل انتخابات الرئاسة بحيث يتحول النظام من برلماني إلى رئاسي كما هو الحال في فرنسا، بحيث يكون لديه رئيس وزراء يأتمر بأمره وبذلك تبقى عينه على قصر شنقايا الرئاسي.
وحتى إن لم تكن الأمور واضحة في موضوع التعديل الدستوري، فإن الجميع يعرف أن أردوغان سيصبح رئيساً للجمهورية مع استمرار الحديث عمن سيخلفه. فهل تتكرر التجربة الروسية ليعود غول رئيساً للوزراء، أم أن غول الأكثر اعتدالاً ومنطقية في نهجه السياسي والعقائدي سيذهب في مهمة خارجية بصفة الأمين العام للحلف الأطلسي أو الأمم المتحدة؟
وفي الوقت الذي يستمر فيه التنافس داخل الحزب لخلافة أردوغان حيث كان من بين المرشحين وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، يقال إن الأخير فقد حظه بسبب الانتقادات العنيفة التي يتعرض لها داخل قيادات «العدالة والتنمية».
ومها كان عدد المرشحين مع اختلاف سلوكهم الشخصي ونهجهم السياسي والعقائدي لخلافة أردوغان في زعامة الحزب والحكومة، يبدو أن البعض لا يتجاهل كون ابنة أردوغان الشابة (سمية) من بين هؤلاء المرشحين، خصوصاً إذا اصبحت عضواً في البرلمان في انتخابات 2015.
وقد تكون المشاكل الداخلية في حزب العدالة غير خطيرة ما دام هو الأقوى في ظل المعطيات السياسية الحالية، وبغياب المعارضة اليسارية والقومية القوية. وخصوصاً بعدما كسب أردوغان ودّ الأكراد من خلال المصالحة التكتيكية مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان. والى جانب ذلك، يبقى رهان الحزب الأهم دائماً على عاملين أساسيين، وهما استمرار الدعم الأميركي السياسي والاقتصادي لأردوغان. دعم سيضمن لرئيس الحكومة ولحزبه البقاء في السلطة لسنوات طويلة قد تصل الى 30 سنة، وهو عمر الأنظمة في المنطقة.
لكن وفق رؤية أخرى فإن تدهور الوضع الاقتصادي سيدفع الناخب التركي إلى معاداة الحزب الاسلامي الذي سيكون مصيره مصير الأحزاب الأخرى التي حكمت تركيا من قبل ولم يعد أحد يتذكرها بسبب فشلها الذريع والخطير في موضوع الاقتصاد. فعلى ما يبدو أن الاقتصاد هو الأمر الوحيد الذي يهم المواطن التركي كما يهم واشنطن التي لن تتردد في التخلي عن أردوغان كما تخلت عن حلفائها في العالم العربي وإيران، لأن ما يهم واشنطن مصالحها، ليس فقط الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بل المعنوية أيضاً، حتى يكون صوتها هو الأعلى في عالم عاد إليه الروس بصوت عال حتى من خلال العلاقات الاقتصادية والتجارية الإستراتيجية مع تركيا ــ أردوغان.
وبات واضحاً أن حزب العدالة والتنمية قد تحول إلى شركة تجارية مساهمة على أن يبقى أردوغان رئيساً لمجلس إدارتها ما دام يملك العدد الأكبر من أسهمها مهما كان لونها أو شكلها، لأن المهم هو أن تربح هذه الشركة تماهياً مع المقولة التركية «ليس للنقود دين أو إيمان».