يبدو أن «الاستفزازات»، التي تتذرع بها سيول دائماً لرفع وتيرة تأهبها وتكثيف مناوراتها مع القوات الأميركية الحليفة في البحر الأصفر (غرب)، تهمة تستحقها كوريا الجنوبية لا خصمها الشيوعي كوريا الشمالية هذه المرة. فالتدريبات البحرية والجوية المتواصلة قبالة سواحل الصين أدخلت عنصراً جديداً على ترسانتها، من شأنه إثارة القلق لدى حكام الدولة الستالينية، حيث قامت طائرتان من طراز «بي-2» الأميركية، بمهمة تدريبية أمس فوق كوريا الجنوبية.
و«بي-2»، التي يصل مدى عملها الى 11 الف كيلومتر، تُعد سلاحاً مخيفاً مُعَداً لمهمات خاصة للقصف الاستراتيجي من علو مرتفع (حتى 15 الف متر) وراء الخطوط المعادية.
وهذا النوع من الطائرات «الشبح»، التي استخدمت للمرة الاولى في صربيا (1999) ثم في أفغانستان (2001) وليبيا (2011) تعد «عنصراً هاماً في قدرة الردع التي تملكها الولايات المتحدة في منطقة آسيا ـــ المحيط الهادئ»، حسب بيان الجيش الأميركي.
طائرات لا يمكن رصدها، فهي تحلق بسرعة الصوت، ويمكنها حمل حتى 18 طناً من السلاح التقليدي أو النووي، منها 16 قنبلة بزنة 900 كيلوغرام موجهة بواسطة الأقمار الاصطناعية، أو ثماني قنابل «جي بي يو-37» مضادة للتحصينات البالغة الشدة.
إذن هو سلاح جديد دخل الى منطقة النزاع في شرق آسيا، بهدف تغيير قواعد الاشتباك، وإن كان الهدف الظاهر منه تحذير كوريا الشمالية إثر تهديداتها بشن حرب نووية على الولايات المتحدة وضرب بعض جزرها بالصواريخ البعيدة المدى، فهو رد مباشر على تجربتها النووية في 12 شباط الماضي، التي سبقها قبل شهرين اطلاق صاروخ فضائي اعتبرته واشنطن تجربة لصاروخ بالستي.
والمراقب للتطورات التي تسير بها عجلة التاريخ في العالم ككل، يدرك أن سياسة واشنطن تجاه بيونغ يانغ لا تنفصل عن سياستها تجاه مجموعة الدول التي تدور خارج الفلك الأميركي، في محور يمتد من فنزويلا إلى سوريا مروراً بإيران، التي تتعرض لأشد أنواع العقوبات بذريعة مواصلتها لبرنامجها النووي.
وفيما تسعى الصين (الداعم الأساس لبيونغ يانغ)، في ظل قيادتها الجديدة، إلى تعزيز موقعها الدولي من خلال سياسة اقتصادية أكثر ليبرالية وفتح مجالات جديدة للتبادل التجاري عقب انتهاء جولتها الأولى من المفاوصات مع كوريا الجنوبية واليابان لتسهيل المبادلات التجارية بين الاقتصادات الآسيوية الثلاثة، يكثّف زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون، من تحركاته على المواقع العسكرية، على وقع مناورات تقوم بها الوحدات القتالية في كوريا الشمالية المحاذية لدولتين عظمتين؛ الصين وروسيا.
من الواضح أن واشنطن، التي تحاول الإطباق على المحور المعارض لسياساتها، تضع خططاً لعزل كوريا الشمالية عن محيطها، وخصوصاً بعد امتعاض الصين من التجربة النووية التي قامت بها طفلتها المدللة، وتحفّظ روسيا ازاء هذه التجربة.
لهذا لجأت بيونغ يانغ (التي يقف زعيمها الشاب أمام اختبار صعب لتعزيز نفوذه في داخل البلاد) الى الخيار الاستباقي في التحذير والتهديد والاستعداد الميداني، ضاربة عصفورين بحجر واحد؛ إثبات قدرة زعيمها على قيادة سفينة هي في عهدة «آل كيم» منذ عهد جدّه مؤسس الدولة الشيوعية كيم إيل تسونغ، والضغط على سيول وواشنطن للجلوس على طاولة التفاوض وفق شروطه.
على الجانب الآخر، بدت الحركة مريبة أكثر، بما يصب في مصلحة خيار التصعيد بدل اللجوء الى التفاوض، فواشنطن التي أكد وزير دفاعها تشاك هاغل، أول من أمس، خلال محادثة هاتفية مع نظيره الكوري الجنوبي «التزامها الثابت بالدفاع عن كوريا الجنوبية»، تعمل على تحديث اتفاقها العسكري مع سيول، ليتضمن «القيام برد مشترك في حال أي استفزاز ولو بسيطاً من قبل كوريا الشمالية، مثل تسلل محدود» للقوات الكورية الشمالية الى الشطر الجنوبي.
ولعل هذا الإجراء يأتي في ظل حكم الرئيسة بارك كون هيه، زعيمة الحزب المحافظ (سيه نوري) المعادي للنظام الشيوعي منذ الحرب الكورية (1950-1953)، التي هددت بطريقة غير مباشرة بيونغ يانغ هذا الأسبوع قائلة، عليها أن «تتوقف فوراً عن اعتقادها بأن الأسلحة النووية ستحمي نظامها الحاكم».
وعلى الرغم من هذه التهديدات المتبادلة بين الكوريتين، لا تزال «شعرة معاوية» هي الفاصل بين الماء والنار، ففيما قطعت بيونغ بيانغ بالفعل خطاً ساخناً مباشراً للقوات الأميركية المتمركزة في كوريا الجنوبية، وخطاً خاصاً بالصليب الأحمر كانت تستخدمه حكومتا البلدين، «في هذا الوضع الذي يمكن فيه أن تندلع الحرب في أي لحظة»، على حد قول متحدث عسكري شمالي، سمحت بالشكل المعتاد بحركة عبور العمال الكوريين الجنوبيين الى ومن مجمع كيسونغ الصناعي المشترك، الذي يقع في كوريا الشمالية. ودخل نحو 200 شخص و166 سيارة تحمل نفطاً ومواد إلى المنطقة الصناعية، بعدما استخدمت سلطات كوريا الشمالية خط اتصالات هاتفية منفصلاً للسماح بالدخول.