Strong>ديغول أرسى اقتصاداً «لا يفضّل المال على الإنسان» ولا يزال يقاوم «قطيعة ساركوزي»يدشّن الرئيس نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، اليوم، نصباً للجنرال شارل ديغول في مسقط رأسه في «كولومبي لي دو إغليز»، بمناسبة مرور 50 عاماً على بدء العمل بدستور الجمهورية الخامسة الذي أراد سيد الاليزيه أن «يقطع معه» قبل أن يتراجع أمام «مدّ الأزمة المالية وجزر الليبرالية»

باريس ــ بسّام الطيارة
في عام ١٩٥٨، أطلق شارل ديغول تعديلات جذرية على دستور الجمهورية الرابعة وجعل منصب الرئيس، الذي بات ينتخب مباشرة من الشعب، محورياً في إدارة شؤون الدولة. ويتفق المراقبون على أن «الفضل في استقرار الحياة السياسية الفرنسية» يعود أولاً وأخيراً لهذا الدستور الذي وافق ٨٠ في المئة من الفرنسيين عليه. هذا في ما يتعلق بالسياسة. غير أنّ أكثر ما يبرر هذا الإطراء بحقّ هذا الدستور، أنّ «وفرة اقتصادية» تعرف بـ«الثلاثين سنة المجيدة» أعقبت بدء العمل بهذا الدستور الذي دفع بالمجتمع الفرنسي واقتصاده إلى الصف الرابع عالمياً، وسمح لباريس بمخاطبة «كبار الاقتصاديات» بعدما خرجت منهكة من الحرب العالمية الثانية.
والجنرال كان ينتقد منذ ما قبل وصوله إلى الحكم، «التوجه الانكلوسكسوني» في تنظيم أنماط المجتمع من السياسة إلى الثقافة مروراً بالاقتصاد. حتى عندما «ركعت فرنسا نتيجة البربرية النازية»، ولجأ الجنرال إلى بريطانيا يدعو إلى المقاومة والأمل، لم يكن يتردد في إظهار انتقاداته لليبرالية الأنكلوساكسونية. وحده «عناد (ونستون) تشرشل المقاوم» كان يحوز تقديره.
وفي الاقتصاد الصناعي خصوصاً، رفض ديغول، بعدما اندحرت النازية، تحرير جميع مرافق الآلة الاقتصادية كما حدث في باقي أجزاء أوروبا وألمانيا «المحرّرة». كما لم يسر بمبادئ الاقتصاد الريعي، بل انصبّ جهده على تطوير الاقتصاد الصناعي، فكان ازدهار صناعة الطائرات والقطارات السريعة والمحطات النووية والأدوت الكهربائية المستقلة عن «دورة الصناعة الأميركية».
أما في عالم المال وأسواقه، فقد أيّد ديغول اتفاقية «بريتون وودز» التي وضعت الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب. ولكنه تصدى بقوة للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، حين أعلن بشكل أحادي في ١٥ آب ١٩٧١ فضّ ربط الدولار بالذهب، ما أنهى عملياً اتفاقية «بريتون وودز» وأطلق العنان «لمطبعة الدولار» كما يردّد الخبراء الماليّون.
وظل ديغول يعاند التوجه الليبرالي للأسواق المالية، وترك بصماته على «الفلسفة المالية للفرنسيين». وبالرغم من سياسات الحكومات اليمينية واليسارية لجرف الاقتصاد الفرنسي نحو تيار أكثر ليبرالية، فإن التركيبة التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية تبدو على نقيض مبادئ «تفضيل المال على الإنسان»، وهو ما قد يفسّر سبب رفض العديد من الفرنسيين لـ«وحدة أوروبية تهمّش الفرادة الفرنسية».
كانت القطيعة التي وعد بها ساركوزي في المجال الاقتصادي والاجتماعي آخر هذه المحاولات. وقد جاءت الأزمة المالية لتعيد التذكير بمحاسن «اليعقوبية الفرنسية»، فإذا بالمقررات الـ١٩ التي خرجت من قمة الأربعة الكبار التي عُقدت قبل أسبوع في الإليزيه، تشير كلها إلى عقم «الليبرالية المتوحشة» وإلى ضرورة إمساك الدولة بمعايير «حرية الربح». وقد ردّد ساركوزي مراراً ضرورة «تشجيع الرأسمالية الصناعية عوضاً عن الرأسمالية الريعية».
وسمح ذكاء ساركوزي وحنكته السياسية بعدم «إظهار التأثير الفرنسي» على قرارات قمة الكبار، وجميع القرارات التي تبعتها في العواصم الغربية. إلا أن الأنباء الواردة من واشنطن، التي باتت «تؤمم المصارف»، أو لندن التي إلى جانب تأميمها مصرفاً، قبلت بفرض ضرائب على أرباح المضاربين، أو برلين التي «عادت وقبلت بمساعدة مصارفها»، كلّها تشير إلى أن «الوصفة الفرنسية التي أسس لها الجنرال الطويل القامة والبعيد النظر»، باتت دواء «أزمة الجشع المالي».

وقد «اندسّ» سياسيو اليسار في محاولة لتسلّم المبادرة، فصرخ السكرتير الأول للحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند في وجه نواب اليمين: «ما ينهار اليوم هو الليبرالية الاقتصادية التي كانت أساس معركتكم الإيديولوجية». نسي الاشتراكي المخضرم أن سياسة ساركوزي «قبل أسابيع» كانت مثلها مثل سياسة فرانسوا ميتران تندفع وراء الأسواق والعولمة، كما نسي نواب اليمين أنّ القطيعة التي كانت حصان معركة ساركوزي لم تعد تعني شيئاً إلا العودة إلى «وصفات الجنرال الذي أنقذ فرنسا».