فقر وتراجع في الظروف الصحيّة وعنف بدأ يلوّن المجتمعكاب تاون ــ بسّام الطيارة
حالما تخرج من مطار مدينة «رأس الرجاء الصالح»، كاب تاون، تطالعك لوحة إلكترونية ضخمة تحمل العد العكسي تحضيراً لمباريات كأس العالم في كرة القدم، التي تستعد جنوب أفريقيا لتنظيمها عام ٢٠١٠.
كأس العالم هي الشغل الشاغل للمواطن الجنوب أفريقي. ويشير سائق سيارة التاكسي إلى اللوحة ليعلن بفخر لا يمكن إخفاؤه «بعد ٥٣٦ يوماً، ستنظَّم كأس العالم للمرة الأولى في أفريقيا».
يمكن قراءة فخر مواطني جنوب أفريقيا بهذا الحدث المنتظر وبأحداث عالمية كثيرة باتت تدور في «البلد العملاق الذي سحق نظام العنصرية» في أمور كثيرة، مثل انتخاب ملكة جمال العالم، الذي جرى نهاية الأسبوع الماضي في جوهانسبورغ، وتوجت الروسية كسينيا سوخينوفا، أو بطولة التنس وكأسها قبل أيام أيضاً.
يدرك الجنوب أفريقي أن صراعه السابق مع نظام التفرقة البغيض وانتصاره بفضل نضاله ونضال رجال أمثال نيلسون مانديلا جعل منه شعباً متميّزاً ومحط أنظار الشعوب الأخرى، وخصوصاً الأفريقية. هذا الشعور يصادف كل زائر حالما يطأ أرض البلاد، يراه على الوجوه في الشوارع وفي وسائل الإعلام، يتناهى له في التصريحات الرسمية وغير الرسمية، يلمسه من خلال الاستقبال في الفندق. ولكنه يلاحظ بسهولة أن «نظام التفرقة قد ولى إلى غير رجعة في أشكاله الدستورية»، إلا أنه «موجود بقوة في أشكاله الاقتصادية والاجتماعية»، وفي كل زاوية من الزوايا التي يراها «الزائر الأجنبي». فكيف الحال في الثنايا التي لا يراها في داخل المجتمع المغلق البعيد عن أبصاره؟ كيف هو الأمر في التاون شيب، التي لا يمكن زيارتها من دون تحضير مسبق بسبب غياب الأمن والعنف المستطير؟
العنف المستمد من غياب الأمن ومن الفقر المدقع الذي يسود شرائح واسعة من الشعب، بدأ يخرج من «تجمعات السكان» (تاون شيب) ليزحف رويداً رويداً إلى المدن ليحتل وسطها. «لا ننصح بالخروج إلى الشوارع بعد الساعة الخامسة بعد الظهر»، تحذير يحتل جدران كل الأماكن التي يقيم فيها أجانب، وتطلقه سفارت الدول الأجنبية، وتلصقه وكالات السفر على كل كتيباتها. وفي الواقع لا يمكن الخروج «من دون سيارة يقودها شخص أفريقي». لا يمكن التنقل على الطرق السريعة، ليس فقط بعد ساعة معينة بل في أي ساعة من ساعات النهار، فما بالك في الليل؟
غياب الأمن بات إحدى مميزات أفريقيا الجنوبية اليوم. يأسف العديد من سكان المدن الكبرى للوضع الذي وصلت إليه الحالة الأمنية. أحد العاملين في مجال النقل البحري، ويعرّف نفسه بأنه «أبيض أفريقي» رافضاً الحديث عن أصوله الأوروبية لأنه «ممن حاربوا التفرقة العنصرية»، يقول «بتنا هنا مثل نيجيريا» الشهيرة بانعدام الأمن.
ويقول دبلوماسي سابق في جنوب أفريقيا، ومحام حالياً، إنه يخاف من «مقارنة بلده بدول أفريقية أخرى». ويبرر ذلك بأنه «تراجع رهيب على مستوى النمو الاجتماعي».
ويشير الدبلوماسي، الذي يعرّف عن نفسه بأنه «ممن استفادوا من انهيار نظام الفصل» وهي طريقة محبّبة للإشارة إلى أصوله الأفريقية، إلى أن «الفقر يتسع اتّساعاً لا يمكنك أن تصدقه، والعنف هو وليد هذا الفقر المتزايد». ويتفق الجميع على أن العنف يمثّل التحدي الأكبر قبل افتتاح مباريات كأس العالم، والذي يجب معالجته جذرياً إذا أريد للكأس النجاح في أول بروز لها في القارة السمراء.
وتقول التقارير الدولية إن جنوب أفريقيا تملك الاقتصاد الأكبر في القارة الأفريقية، والأكثر تطوراً، وأن البنى التحتية تشمل كل أنحاء البلاد. قد يكون هذا صحيحاً في ما يتعلق بمناطق معينة، إلا أنه لا توجد أي إشارة خارج المناطق المخصصة للبيض إلى هذا التطور والإفادة من البنى التحتية الحديثة.
قد يكون عدد السنوات الذي مرّ على نهاية نظام العنصرية قليلاً للانتهاء من آثار التفرقة، إلا أن ما يجب طرحه على بساط التساؤل هو عن توجهات النمو عموماً: هل أتت لتكمل تنظيمات تنموية وضعها النظام البائد فألغت التفرقة من حيث المبدأ لتبقيها من حيث النتائج على الأرض؟ أم أنها أرادت الخروج من سيطرة «الرجل الأبيض» فتماثلت خططها التنموية مع دول أفريقية لا تملك المقومات القوية التي تركها النظام الأبيض العنصري؟ فهرولت وراء تعزيز مقومات السياحة والاقتصاد الريعي والاستثمار العقاري للنخب البيضاء، الذي تشاطرها فيه شريحة ضيقة جداً من الأفارقة؟
يتفق كل المراقبين على أن أفريقيا الجنوبية تملك كل العوامل لتصبح قوة اقتصادية كبرى حديثة، تصنيعاً وتنمية، إلا أن هؤلاء يتفقون أيضاً على أن إهمال الجانب الاجتماعي في التنمية يجعل كل هذه العوامل الإيجابية عوامل سلبية. عوامل تسيّر البلاد على سرعتين مختلفتين، تقود واحدة طبقة بسيطة نحو نمو وثراء يماثلها بأفضل المستويات في الدول المتقدمة، بينما تكبل الثانية بقية الشعب الأفريقي في واقع يماثله بشعوب الدول المحيطة به ويشاطرها همومها من الفقر وتراجع الظروف الصحية، وفي مقدمتها الإيدز والكوليرا، إضافةً إلى العنف الذي بدأ يلوّن مجتمع جنوب أفريقيا.