لكي لا يتحوّل الحديث عن عمر احتلال العراق، بكاءً على الأطلال، من الأفضل حصر الحديث عنه بالأرقام والمعلومات، وإن كان ذلك على حساب الأرواح والخسائر التي حلت بها. يبقى الخوف أن تكون السنوات الست المقبلة أكثر سواداً من الماضية

■ «تغيير» أوباما يقف عند حدود بلاد الرافدين



واشنطن ـ محمد سعيد
يدخل العراق اليوم عامه السابع تحت الاحتلال، من دون أن يلوح في الأفق أن الولايات المتحدة تعتزم فعلياً تركه لأبنائه لإعادة بناء ما دمّره الاحتلال. ففي الوقت الذي بدأت فيه قوات الاحتلال سحب بعض ألويتها المقاتلة طبقاً لقرار إدارة الرئيس باراك أوباما القاضي بإعادة نشر 12 ألف جندي من العراق في غضون الأشهر الستة المقبلة، فإن منتقدي القرار يرون أنه لا يلبي تعهدات أوباما الانتخابية، وخصوصاً أنه كان قد دان غزو بلاد الرافدين بوصفه «انتهاكاً للقانون الدولي». ومرد هذه المخاوف أنّ إعلانه سحب «القوات المقاتلة» في نهاية آب 2010، يتضمّن في الوقت نفسه، إبقاء نحو 50 ألف جندي (إلى جانبهم نحو 100 ألف من المرتزقة الأجانب)، تحت ستار خادع هو «قوات تدريب، وحماية للمصالح الأميركية وقوات مكافحة الإرهاب»، وهو ما يعني عملياً بقاء الاحتلال.
ورغم تشديد أوباما على أن بلاده ستنسحب من العراق بحلول نهاية 2011، إلا أن الخطط التي تعدّها وزارة الدفاع، تتضمن مواصلة الجهود لتوسيع قواعدها العسكرية بما فيها قواعد «بلد» و«الأسد» بمدارج للطائرات يزيد طولها على 4 كيلومترات لاستخدامها من قبل القاذفات الضخمة وطائرات الشحن.
وإلى جانب الوجود الأميركي المكثف في «المنطقة الخضراء»، فإن «البنتاغون» تعمل على الاحتفاظ بـ58 قاعدة عسكرية دائمة في العراق، ستبقى مسيطرة على كامل الأجواء العراقية، مقارنة بـ36 قاعدة عسكرية أميركية في كوريا الجنوبية. كما أن شركات النفط الأميركية لا تزال تتدفق إلى البلاد لتوقيع عقود استغلال النفط العراقي.
ووفق ما أعلنته «البنتاغون»، فإن قواتها ستبقى في حالة تأهب تامة خلال الانتخابات العراقية التشريعية، التي ستجري في كانون الأول المقبل، لضمان «الأمن»، وهو ما يرى فيه البعض إشارات إلى ضمان فوز من تختارهم واشنطن.
وهنا يشير البعض إلى أنّ جوهر سياسة أوباما تجاه العراق، هو تحويل الاحتلال إلى استعمار على غرار النموذج الإمبراطوري البريطاني الذي حكم بلاد الرافدين طويلاً. استعمار جديد يستغل نفط البلاد عن طريق تنصيب حاكم رمزي، وإبقائه في السلطة باستخدام جيش محلي ووحدات مساعدة جوية، ووحدات عسكرية أصغر في مناطق غير سكنية جاهزة للتدخل عند الطلب لقمع أي محاولات «انقلابية».
ولا ينبغي أن ينسى المراقب أنّ الاتفاقية الأميركية ـــــ العراقية (سوفا)، تسمح لحكومة عراقية موالية للولايات المتحدة، بطلب تمديد بقاء القوات الأميركية إلى ما بعد 31 كانون الأول 2011. أي بكلام أوضح، الاتفاقية لم تنه الاحتلال.
أما عن الوضع الأمني، درّة نجاح حكومة نوري المالكي، فالكلام يطول. فبعد ست سنوات من الاحتلال، ينسى المروّجون للتحسن الأمني، الثمن الباهظ الذي دفعه المواطنون في مقابله؛ فبغداد مطوّقة بأكثر من 180 كيلومتراً من الجدران الاسمنتية التي قسمت المدينة إلى معازل وملاذات مذهبية خالصة. وبقاء «روابط القرى والعشائر» أو «جماعات الصحوة»، يعتمد على الاحتلال، فيما لا يزال العراق يفتقر إلى جيش نظامي قادر على العمل بمفرده.
وفي السياسة، حدث ولا حرج. الخلافات بين مكوّنات «العملية السياسية» تقترب من حدّ الانفجار، وخصوصاً في ما يتعلق بـ«الفدرالية»، والوضع النهائي لكركوك. وحتى اليوم، لم تُحل معضلة قانون النفط وتقاسم عائداته، وليس هناك من ضمان بألا ترتفع حدة التوتر في أعقاب الانتخابات المقبلة.
وبينما تجري المطالبة في بريطانيا بالكشف عن وثائق الحكومة البريطانية الخاصة بشنّ الحرب على العراق لفضح أكاذيب رئيس الحكومة السابق طوني بلير واستخباراته، فإن أوباما قد أوضح أنه لن يجري محاسبة أو محاكمة للمسؤولين عن الحرب أو التعذيب أو الاختطاف أو الاغتيال. فواقع أن الحرب قد استُغلت لسرقة ونهب أكثر من 125 مليار دولار منذ عام 2003 عن طريق برامج «إعادة إعمار العراق»، لا يستحق المحاكمة بحسب قاموس الرئيس الشاب.
ويعرب عدد من المتابعين عن ثقتهم بأن الولايات المتحدة، التي تواجه عجزاً اقتصادياً يُقدَّر بنحو 1.75 تريليون دولار، فإن نفقاتها العسكرية سوف تزداد بنحو 200 مليار دولار في عامي 2009 و2010، لتغطية نفقات وجودها في العراق وأفغانستان. كما سيُضخ نحو 50 مليار دولار في موازنة وكالات الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) للغرض ذاته.
وكان المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، فيليب جيرالدي، أول من يفضح سرقة زملائه للثروات العراقية عن طريق تهريب نفط البلاد لبيعه في السوق السوداء في أوروبا الشرقية، وخصوصاً في بولندا. وأوضح «لقد سُرقت نسبة كبيرة من النفط العراقي الذي ينتج من حقول كركوك من دون عدّادات ولا سجل إنتاج، فقد كان يحوّل إلى شاحنات تتجه إلى تركيا ومنها إلى بولندا، حيث يقوم رجال استخبارات بترتيب بيعه في السوق السوداء».
خلاصة القول أنه لا نية للمحاسبة بالنسبة لأوباما؛ صحيح أن الحرب سبّبت قتل نحو مليون عراقي وجرح وإعطاب ملايين آخرين وتهجير أكثر من أربعة ملايين، واعتقال وأسر أكثر من 20 ألف مواطن، وتدمير بلد بكامله وسرقة ونهب تراثه. وصحيح أنّ كلفة الحرب بلغت حتى الآن 3 تريليونات دولار ومقتل نحو 4500 جندي أميركي وجرح وإعطاب الآلاف غيرهم، لكن كل ذلك يضعه أوباما «التغييري» في خانة «الماضي».
بالنسبة إلى طيف كبير من المعلقين على الوضع الأميركي ـــــ العربي، فإن المخاوف إزاء بقاء الاحتلال في العراق، حقيقية؛ فالتغيير في رأس هرم السلطة في واشنطن، لم يتبعه تغيير في هرم المؤسسة العسكرية. ويكمن الخطر في أنّ وزير الدفاع روبرت غيتس لا يزال في منصبه، ورئيس هيئة الأركان الأدميرال مايكل مولن، كذلك حال قائد القيادة المركزية الجنرال ديفيد بيترايوس، وقائد الاحتلال في العراق ريمون أوديرنو، والجنرال المتقاعد جاك كاين، واضع خطة «الإغراق».

■ زاد عمر المقاومين... والمتعاملين
بغداد ــ زيد الزبيدي
ست سنوات مضت، ويبدو أن العراقيين لا يزالون يعيشون صدمة اليوم الأول، بل اللحظات الأولى التي اختلط فيها صوت آذان الفجر مع صافرات الإنذار، والدويّ الهائل الذي ملأ صباح 20/3/2003 بلون الدم ورائحة الموت.
الحرب هي الحرب، والضحية هو العراق، وجرحه الذي ما انقطع نزفه، لا يزال يعاند، وينظر شزراً إلى «أغصان الزيتون»، المخضّبة بدمه، والتي يحملها الغزاة وأتباعهم، ليظهروا كأنهم هم الضحية، وشعب العراق «الإرهابي» هو الغازي والمحتل.
ست سنوات من الذبح والتهجير والدمار، ومن ثم يطلب الجاني من الشعب أن يعتذر، ليصفح عنه، ويدخله في «نعيم خيمة الاحتلال»، وإلا فسيكون عدواً للديموقراطية والفدرالية والعزل الطائفي خلف الجدران الاسمنتية، التي تحقّق له الأمن والأمان.
لكن في الجهة المقابلة، أصبح عمر المقاومة أيضاً ست سنوات أذلّت المحتل، وكبّدته من الخسائر ما يفوق تحمّله.
وما دام الحديث عن ست سنوات، فإن الحكام الحاليين ما انفكوا يتباكون على «المظلوميات» في عهد النظام السابق، «الذي أدت سياساته إلى التخلف الاقتصادي والثقافي وتدمير البنى التحتية، وكل ما يعانيه الشعب العراقي اليوم من مجاعة وبطالة وحرمان من أبسط مقومات العيش». وكأنهم في كلامهم هذا، ومعهم أبواق الاحتلال، لا يزالون في مرحلة «الحضانة»، إن لم يصحّ القول في مرحلة التخريب والتدمير المستمر.
ولعلّ أكثر ما يزيد الجرح إيلاماً أن بغداد الجميلة، هي الآن مجرد ركام وجدران عازلة، فيما يدّعي المسؤولون أن كل ذلك هو بسبب سياسات النظام السابق وجهله.
إلا أنّ ست سنوات من العذاب المستمر، والكذب المستمر، تجعل المرء يعيد السؤال الوجودي: لماذا الغزو والاحتلال؟ وما هي الأسباب والمبررات؟ وماذا ستكون النتائج البعيدة؟
لقد رسم الاحتلال وأعوانه خططهم، مع سبق الإصرار، ووفق ادعاءات يعرفون بطلانها، مثل أسلحة الدمار الشامل، والإرهاب، وتهديد الأمن الدولي، وما إلى ذلك من أقاويل لا يصدقها عاقل. وبعد افتضاح هذا الكذب، جاءت الكذبة الجديدة: سبب الغزو والاحتلال هو الرغبة بـ«نشر الديموقراطية» في العراق، لتعميمه نموذجاً في المنطقة.
ويمكن لأبسط المتابعين السياسيين أن يتساءلوا: من الذي فوّض أميركا لتكون رقيباً ووصياً على الديموقراطية؟ وأي ديموقراطية تأتي من خلال الاحتلال وقتل الشعب، وتدمير كل البنى التحتية والاجتماعية لبلد آخر؟ ولعل التساؤل الأهم هو كيف ارتضى من يدّعون أنهم من أبناء البلد أن يكونوا في صفوف الآلة التدميرية للمحتل؟ الجواب لدى العراقي العادي سريع وغير متردد: إنهم أسوأ من المحتل نفسه.
أعطت هذه النتيجة رؤية «خاطئةً» لبعض القوى، بإمكان التعاون مع المحتل لطرد المتعاملين معه، ما داموا أسوأ منه. والمحتل ـــــ دائماً بحسب نظرية هذه الفئة ـــــ لن يخسر شيئاً في استبدالهم، لأن «العملية السياسية»، هي من صنعه، هو وضع قوانينها وبيده وحده أدوات تغييرها وتغيير رموزها.
سنوات عدة من الاحتلال ومن المقاومة، جعلت المحتل يفكر في كيفية التخلص من ورطته وأن يخرج بعد الخسائر الجسيمة، بالقدر الكافي من المغانم، التي تتمثل بربط العراق باتفاقيات تتيح له الاستمرار في نهب الثروات والتصرف بها، مع الاحتفاظ بالقوة العسكرية للتدخل عند الحاجة، لغرض الإبقاء على نظام حكم موالٍ، والتصرف به وفق مقتضيات الحاجة... وفق متطلبات اتفاقية «سوفا».
ومن هنا تأتي الدعوات إلى «المصالحة الوطنية»، التي ينظر إليها الساسة العراقيون على أنها يجب أن تكون ضمن «العملية السياسية» التي وضع الاحتلال قواعدها، على طريقة الائتلافات «البعثية» المشروطة بـ«الإيمان بمبادئ الحزب والثورة». والدليل أن كل من يتحدث عن «المصالحة» اليوم، لم يجرؤ على إدانة الاحتلال، بل على العكس، يحثّ على معاقبة من يعارضه ويقاومه حتى بالطرق السلمية، وفق قانون «مكافحة الإرهاب».
ولكن، على ما يبدو، فإنّ للضرورة أحكاماً؛ فبعد فشل الاحتلال في نشر ديموقراطيته في عموم المنطقة، أخذ يلجأ إلى طلب العون من الدول العربية والإقليمية، وبعض القوى العشائرية المحلية، من أجل تهدئة الأوضاع، وإعطاء نفسه مجالاً لتعديل أو تبديل «العملية السياسية»، ودستورها الطائفي التقسيمي. ولكن حتى اللحظة، لا توجد مؤشرات تدل على إمكان الاعتراف بخطأ الغزو والاعتذار والتعويض والتخلص من كل تبعات وأدوات الاحتلال. فالساسة الحاليون لا يزالون يتشبّثون بمصطلح «تحرير العراق» بدل «الاحتلال». والغريب أن هؤلاء يطالبون قوى النظام السابق بالاعتذار والنقد الذاتي، والاحتكام إلى القانون، ولا يطبقون ذلك على أنفسهم. ولكن كيف يعتذر العملاء عن خطاياهم، وهم لا يستطيعون البقاء إلا ببقاء الاحتلال. وكيف يحتكمون إلى القانون، وكل القوانين تدين، وبأقسى العقوبات، كل من يتعاون مع الأجنبي؟