بعد غد الجمعة، تنتهي ولاية العامَين اللذين شغلت تركيا خلالهما أحد المقاعد العشرة غير الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، للمرة الأولى منذ 1961. عامان خرجت عملية تقويمهما داخل مراكز صنع القرار التركي بحصيلة إيجابية وبرضى عن النفس، دفعت بحكام أنقرة إلى اتخاذ قرار بإعادة الترشّح لعامين جديدين من ضمن حصّة أوروبا الغربية. وشاءت الظروف الموضوعية، كما الإرادة السياسية الذاتية لحكام تركيا، أن يكون عاما 2009 و2010 عامي الذروة بالنسبة إلى دبلوماسية دولتهم. فخلالهما، حصلت تطوّرات من الوزن الثقيل، منها ما وضع رجب طيب أردوغان وزملاءه في صدارة الأحداث العالمية، وخصوصاً عند تذكُّر تداعيات جريمة «أسطول الحرية»، وتمكّن أنقرة وبرازيليا من إبرام اتفاق 17 أيار النووي مع طهران، وبعضها الآخر «حشر» تركيا في الزاوية، عندما كان لا بدّ لها من اتخاذ قرار في لحظة صعبة، مثلما حصل في قمة حلف شمالي الأطلسي في لشبونة، عندما وجد العقل الدبلوماسي التركي حلّاً ملتبساً لطلب الغرب نشر درع صاروخية أطلسية على الأراضي التركية، بشكل لا يفجّر الصداقة المستجدة مع إيران، ولا يفكّ حبل الصرّة بين أنقرة والحلف الغربي في آن.
وكانت تركيا قد فازت بالمقعد الأممي، قبل عامين، بغالبيّة 151 صوتاً من أصل مجموع 192، ما عُدّ إنجازاً بحد ذاته قلّ نظيره في تاريخ انتخابات الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن. خطوة كان لا بدّ من مواصلتها بتعيين العقل المدبِّر أحمد داوود أوغلو وزيراً للخارجية في أيار 2009، ليصبح الرجل حاضراً دائماً في مبنى المنظمة الدولية في نيويورك، ما أدّى إلى التغطية على حضور المندوب التركي الدائم وحركته، إرتوغرول أباكان.
وسعت تركيا في مجلس الأمن، إلى تطبيق ما أمكن من نظريات داوود أوغلو عن الدبلوماسية المتعددة الأبعاد وتصفير المشاكل وتنويع العلاقات الخارجية لتركيا، ما تُرجم إصراراً على تحاشي الحياد في معظم القضايا التي عُرضَت على التصويت. من أزمات أفريقيا إلى الشرق الأوسط فأميركا اللاتينية، كانت أنقرة حاضرة، إما معارضةً للإجماع الذي غالباً ما قادته واشنطن (ضد فرض مزيد من العقوبات على إيران مثلاً)، أو واضعةً نفسها في إطار مساع تسوويّة لا تُخرجها من إطار «المجتمع الدولي»، في الأزمة الكورية نموذجاً.
وفي الأيام الماضية، حفلت الصحف التركية ومراكز الدراسات والأبحاث المقربة من الحزب الحاكم، بمقالات وتقارير تشدّد على «الجانب المضيء» الذي أضافته عضوية تركيا في مجلس الأمن، لتهيّئ الأجواء لما أعلنه داوود أوغلو، قبل أيام، عن نية بلاده إعادة الترشح لولاية جديدة، لكون تركيا، خلال السنتين الماضيتين، «لم تمثل مصلحة ضيقة لأي دولة أخرى أو مجموعة دولية، بل جعلت هدفها تمثيل المسعى الإنساني للأمن والحرية ووجهة نظر العالم المبدئية في الأمم المتحدة»، حتى إن داوود أوغلو وضع نفسه وحكومته أمام تحدّي نيل أكثر من 153 صوتاً هذه المرة من أصل 192، علّ بلاده تتمكن في الدورة المقبلة من الدفع قدماً بمشروعَي إصلاح الجمعية العامة ومجلس الأمن بحيث ينتزع بعض الصلاحيات والنفوذ من الدول الخمس دائمة العضوية لمصلحة إعطائها لدول جديدة صاعدة، كتركيا والبرازيل واليابان وجمهورية جنوب أفريقياً مثلاً، وبهدف منح الجمعية العامة حرية حركة في وجه السلطة المطلقة لـ«فيتو» الدول الكبرى. كلام ينمّ عن ثقة كبيرة بالنفس، مستنداً إلى عدد من المفاصل التاريخية التي تعتزّ تركيا بإنجازها في العامَين الماضيَين. ويبقى الأهم حدثان: الأول، عندما تمكنت تركيا، بُعيد ساعات قليلة على مجزرة «مافي مرمرة»، فجر الأول من حزيران الماضي، من عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن (بدعوة من تركيا ولبنان، العضو غير الدائم العضوية في حينها)، ترأّسه داوود أوغلو شخصياً، حيث «أوكلته 13 دولة في المجلس (أي جميع الدول الأعضاء ما عدا الولايات المتحدة طبعاً) التفاوض والتصرف نيابةً عنها في مجلس الأمن»، على حدّ ما كشفه مسؤول حكومي رفيع المستوى يوم الأحد الماضي. وبنتيجة التفويض الدولي الممنوح لتركيا لتتصرف ضد إسرائيل في أطر الأمم المتحدة، تمكّنت أنقرة من خوض معركة قاسية في وجه واشنطن، متحصّنةً بدعم 13 دولة في مجلس الأمن، للخروج ببيان رئاسي أدان الدولة العبرية بنحو لا تزال تركيا تفتخر به. تفاصيل ما كان ممكناً إنجازها لو لم تكن تركيا عضواً في مجلس الأمن.
أما الحدث الثاني، الذي سيبقى «فخر الدبلوماسية التركية» طويلاً، فهو الاتفاق الذي أُبرم في طهران، في 17 أيار الماضي، بمبادرة تركية ـــــ برازيلية، وهو ما لم يحل دون فرض عقوبات أممية جديدة على الجمهورية الإسلامية، من دون أن يمحو ذلك واقع أن تركيا، بالاتفاق المذكور، قدّمت لـ«المجتمع الدولي» حلّاً يحفظ حقه بعدم رؤية إيران نووية عسكرية، مع حفظ حق طهران بإنتاج طاقة ذرية لا تزال تصرّ على أنها بعيدة عن الأهداف العسكرية.
أخيراً، لكون عواصم الغرب لا تزال مقتنعة بأنّ تركيا عدّلت وجهة أولوياتها الدبلوماسية نحو الشرق الأوسط خلال شغلها مقعداً في مجلس الأمن، كان لا بد لداوود أوغلو من التذكير بأنه، في عام 2010، أي في عزّ أكثر أعوام الدبلوماسية التركية نشاطاً، قام بـ81 زيارة خارجية، 27 منها فقط لعواصم شرق أوسطية، في مقابل 54 لدول أوروبية.