ينكشف عطب الحاضر عندما نقتفي أثر هذا العطب ونعود به إلى جذوره. ثمة عطب متجذّر، مفتوح على مصراعيه، يصرّ على سحب حاضرنا نحو ظلام مطبق، يتجسّد في المعتقد الذائع الذي يربط مفهومَي «الليل» بـ«الأنثى» والعكس، مع إضفاء بعد ظلاميّ، مغمّس بالشرّ على كليهما. أن نقتفي الأثر أو أن نتتبعه، مهمة تجبرنا إلى إيلاء نظرة-ولو جاءت خاطفة- على حكايات تراثنا الشرقي وعلى أعمال المستشرقين، والتبحر في تفاصيل وجوهر دلالة كل من «الليل» و«الأنثى» كما تم تصويرهما في تلك الحكايات. تلك النظرة ستتيح لنا القدرة على فهم رواية حاضرنا المعطوبة كما أنها ستقودنا إلى مكمن انبثاقها. لتلك الحكايات مساراتها التي لا تختلف كثيراً عن مسار اليوم. فدلالة الليل تنص على كونه شرّاً فيما المرأة تدلّ على الخطيئة، على هذا النحو يصبح المفهومان في الجوهر متشابهيْن. من هذه النظرة القاصرة تَشكل حاضرنا العنيف الذي ابتلينا بعواقبه، حيثما باتت المرأة «الليل» فيما «الليل» يعني خطيئة.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

إذا عدنا إلى أعمال المسشرقين، وأخذنا «لوحة نساء الجزائر» للمستشرق الفرنسي الرسام دلاكروا مثالاً، وتذكرنا الجدل الذي دار حولها، يمكننا عندئذ فهم صورة «المرأة»، ومعنى أن تكون «امرأة»، وكيف تكوّن موقعها. اللوحة تصوّر سيدات في المنزل يتسامرن ويدخنّ النرجيلة بجوّ مريح ومفعم بالتسلية. لكنّ التاريخ يخبرنا أن الدخول إلى قلب الحرم ورصد حياة النساء اليومية لهو أمر شديد الصعوبة، بل ويُعتبر من المستحيل، لذلك فقد رجحت أغلب الآراء أن اللوحة مصنوعة من وحي الخيال، أو أنها تمثيلٌ لما كانت عليه منازل الجاريات كما تذكرها دولاكروا. اللوحة إذاً لا تمثل بيوت نساء الجزائر لسبب: إنهن محجوبات عن النظر، وكأنّ المراد لهنّ أن يكنّ مرادفاً لليل: أن لا يُرَيْن ولا يراهنّ أحد.
ومثل دولاكروا، هناك واحد من أبرز وجوه الاستشراق الفرنسي وهو جان ليون جيروم. الأخير كان رساماً ونحاتاً، اشتهر بأعماله التي ترتكز على الأساطير الإغريقية وتروم بتهويمات عن أحوال الشرق وأخباره. يقول جيروم: «يتميز العرب بالأنف الجميل والعين التي تشبه الطائر الجارح، وزوايا الوجه منفتحة رحبة. النساء متواريات وراء اللثام، ويرفعن الحجاب بحياء، بعيون ناعسات وجمال حزين. تتمثل المرأة في الشرق في شكل شبح غريب الأطوار». قوله سيعطينا إضافة ثرية لما سيصوره في لوحاته مثل «نساء يطعمن الحمام في الفناء» ولوحة «فتاة مصرية»، بينما اللوحات التي تصور الحياة اليومية في الشوارع والمقاهي مثل «يوم حار في القاهرة» أو «تاجر السجاد» ستتركنا أمام السؤال عن وجود النساء في أعماله الفنية. المرأة غائبة غير موجودة، والمسألة بسيطة لا تحتاج إلى الكثير من الشرح والاسترسال؛ غيابها عن الحياة اليومية في لوحات جيروم تفصح لنا أن المرأة غير موجودة في صميم الحياة اليومية، في قلب الواقع المَعيش، وعليه، فهي غائبة عن المشهد، كأنها تقبع في العتمة، أو قلّ إنها مختفية.
إذا ابتعدنا عن المستشرقين، وتمعنّا في أعمال الفنان التشكيلي السوري سعد يكن، فنرى أن تناوله لموضوع المرأة في الكثير من أعماله وخصوصاً في إعادة صياغته لملحمة ألف ليلة وليلة والذي اعتُبر كشكل من أشكال التكريم للتراث العربي هو في حقيقة الأمر «كليشيه». فقد خلق الرمزية المملّة ذاتها التي تقرن صورة المرأة بالوطن والسلام إلا أن «سيداته» في أعماله التشكيلية يتهاوين في فضاء مظلم لا أفقَ له. أجسادهنّ تصير هالات نورانية مشوّشة لا تحمل أشكالاً واضحة. لا يبقى منهن إلا السواد وكأنهن وقعن في قعر الليل الدامس. أما في حالة الفنان عوض الشيمي ورحلته الخاصة في تقصي آثار الفنون الشرقية والإسلامية فقد اتخذ أبطاله كما يتلاءمون مع مخيلته. الأبطال هم «الجارية» و«المحارب»، وقد قصد بهما تجسيد حالتين للنموذج الشرقي؛ الأول نسوي مهمّش، مكرّس للمتعة والغواية بينما الثاني ذكوري يجاهر بمجده وبطولاته. تصوير المرأة جاء مصحوباً إذاً بالخطيئة، أما الليل والذي يعني ضمناً الخطيئة، فقد بسط سلطته وتجاوز نفسه ليخفي هذه الخطيئة، ذلك من خلال حجب المرأة والمساعدة على تلاشي ملامحها واضمحلالها. عند غوصنا أكثر في التمثلات التي صورت المرأة، سنفهم أكثر النظرة (المعطوبة) تجاهها والتي تشكل حاضرنا، وكيف أنها والليل توأمان، بوصفهما منبع الخطيئة ومكانها.

الشر بوصفه أنثى
في مقاربة لحكاياتٍ أخرى لا تمت بصلّة إلى المستشرقين ولا الفنانين المحليين إنما (حكايات) متأصلة في تراثنا الشرقي ترى المرأة مصدراً لمجمل المشاكل بما فيها الإغراء الجنسي، سنتتبع المخيال الشعبي وأساطيره المتعددة والمتنوّعة، بيد أنها متشابهة في العمق والجوهر ولو اختلفت في الاسم.
لنا في حكاية «عائشة قنديشة» في المغرب، الحكاية التي تنطوي على خرافة تقول إن عائشة هي عجوز شمطاء تتقن تركيب الألاعيب لتفرقة الأزواج عن بعضهم أو بعضهنّ، وسرعان ما تتحوّل إلى فتاة مثيرة لتوقع الزوج في شركها بعد إثارته، فتمارس الجنس معه ومن ثم تقتله وتتغذى من لحمه ودمه، خير مثال على اعتبار المرأة وحشاً هستيرياً لا يمارس سوى القتل والجنس. والخرافة تلك موازية لخرافة «إم دويس» المنتشرة في الخليج العربي، وكذلك هي نفسها الأسطورة الخرافية «ذات الفم الممزق» المشهورة في اليابان. تتغيّر الأسماء لكنّ الأسطورة واحدة. «النداهة» أو الأسطورة المنتشرة في مصر تتلاقى مع أسطورة «المرأة القطة» حيث القاسم المشترك هو الإغراء الأنثوي، الرغبة في القتل، الجنس واشتراط العتمة المطلقة. نستنتج إذاً، أن المرأة كما يجسدها المخيال الشعبي في أساطيره تصبو أن تكون فيلم رعب يهدد العالم إذا ما بدأ بثّه.
في حكاية «الغولة» نرى المرأة أنها شر فظيع لا يعرف تبريراً. اسمها «الغولة» في الأمازيغية وليست لها صيغة في المذكر، وإن كانت اللغة الدارجة تحمل لفظ «غول» إلا أنه غير معنيّ بها. وغاية «الغولة» تخريب حياة الرجال وافتراسهم. من كان هزيلاً مثل «حديدان» (الشخصية الضحية في الأسطورة) فتسجنه وتسمّنه حتى يصبح جاهزاً للأكل لتنقضّ عليه إلا أن حيلة ودهاء «حديدان»، أي الرجل، مكنّاه من القضاء عليها وإطعامها لحم ابنتها في صورة تحمل كثيراً من التشفي في مواجهة البطش. وفي نسخةٍ أخرى من حكاية «الغولة»، فإن الأخيرة تظهر كامرأة جميلة، تجوب شوارع الليل بعد إغرائها شاباً في مكان بعيد، ومن ثم تتحوّل، فتعود إلى ما هي عليه، تظهر هيئتها الوحشية الأصلية وتأكل الشاب. «الغولة» هنا، في التراث الشعبي المصري، المرأة ذات العين الحولاء، صاحبة الشعر المنكوش الأحمر، والأنف الأفطس، قاتلة الأطفال الرضع والسبب في إجهاض الحوامل. في الثقافة المغربية هي «تارير» حيث لا حدود لوحشيتها المفرطة، «تارير» اختارت مهاجمة الناس والقضاء عليهم، تميل بشدّة لأن تكون وحيدة في عزلتها، كما أنها تحب أن تهيم خارج الأسرة والقبيلة والعشيرة لإرضاء رغبتها في الرقص والغناء.
يتبين لنا الحضور الطاغي للشرّ المقرون بالأنثى، أو فلنقل حضور ما يمكننا توصيفه بـ«المرأة الشريرة». هو عنف ساخط يصدر منها وعنها، وهذا التمثيل الذي يترجمه المخيال الشعبي وأساطيره الخرافية موجود في مجمل الثقافات ذات البنية الأبوية، وثقافتنا الشرقية لا تخلو منها. فطبقاً لحكاية «الغولة» فإن الطفل يكبر مع خوف من المرأة لأنها ارتبطت لديه بالإخصاء، لعلمه برغبتها الدفينة في امتلاك القضيب بأي ثمن لتعويض جرح الذكورة. فهل يكون هذا هو السبب وراء العداء تجاه المرأة، والسبب في تغييبها وإخفائها عن الفضاء الاجتماعي؟
أن يشترط العرف أن تكون المرأة رهينة الفضاء الخاص مثل المنزل، يمهد الطريق أمام امتلاكها والسيطرة عليها. فالعرف هذا يضعها تحت الرقابة، تحت السيطرة الرجل، بالتالي تصبح المرأة، في المخيلة الشعبية، امتداداً لامرأة أخرى، أو نسخة عنها، فتتحول إلى كيان ثابت من جهة، وأسطورة واحدة بلغات متعددة لكن بخيالٍ واحد، لها رمزية واحدة ودلالة واحدة من جهةٍ أخرى. من هذا المنطلق، تتماهى المرأة مع ما يشبهها، أي ما هو جامدُ وثابت وغير متحرك، وهو المنزل أو الدار، وفي تماهيها هذا، يصبح شرّها مضبوطاً يلجمه الرجل الذي، بفضل ذكائه، يتغلّب على حنكتها في إتقان الألاعيب، ويكبح ميلها الذي ينحو إلى الإفلات من القيود والعيش بحرية على شاكلة «تارير» فينطفئ شرّها وتذوب خطيئتها بعد أن تغدو محجوبة وغير مرئية.

ليل يهزم التقليد
في فيلم «ليل خارجي» للمخرج أحمد عبدالله نرى حواراً يدور بين عاملة الجنس «توتو» وزميليها المخرج والسائق وهم في رحلتهم الليلية. يبيّن لنا الحوار، أنه وبالرغم من رفض النظام الاجتماعي لـ«توتو» باعتبارها عاملة جنس إلا أن هناك قبولاً ضمنياً لعملها لو كان يجري في نطاق النهار. يدور الحوار على الشكل التالي: «أنا بيتي قريب من هنا تيجوا تتشطفوا تعدلوا منظاركوا» ليجيباها: «يا بنتي إنت مش بتقولي عنك قلق في المنطقة؟» فترد عليهما: «لما ببقى راجعة بالليل بس. إنما انا دلوقتي راجعة الصبح بكل احترامي محدش يقدر يفتح بوقه معايا في الحتة». وبالرغم من كون العمل الجنسي مرفوضاً لأسباب دينية واجتماعية، وبالرغم من علمهما الاثنين بطبيعة عمل «توتو» إلا أننا نجد أن المشكلة الكبرى معها هي خروجها في الليل وعملها أثناءه.
هل السبب هنا يعود لكون المخيلة الذكورية ليست شكلاً ثقافياً سطحياً عامياً بل هي بناء اجتماعي فكري عريق ذو جذور حضارية وعقائدية وإيدولوجية؟ فالنهار مرتبط بالكدّ، والعمل، ليقابله الليل بسكون يجلب الراحة أو صخباً مليئاً بالمرح. نبقى أمام ثنائية «النبذ\ القبول» بشروط تحكمها الإيديولوجيا: العقل الذكوري المسيطر.

الليل وسلطة الأحجية
نساؤنا يتمتعن بكلّ صفات الحجب في أشكالهن وطرائق عيشهن. بالعودة إلى التاريخ مرة أخرى، تخبرنا خرافة «هاينة» أنها (هاينة) خرجت لملاقاة أصدقائها بدون علم خطيبها فتأخرت وقد صار الوقت ليلاً، ولم تستطع العودة لأنها أضاعت الطريق، لينقضّ عليها الوحش ويفترسها. بمجرد ولوجنا في رموز الموروث الشعبي ودلالاته، نستطيع أن نفهم من أين انبثقت إدانة النساء، وتحديد النقطة صفر لثقافة منع خروج المرأة من المنزل بدون إذن أو رغبة من الرجل. على هذا الأساس، يتضح لنا كيف أن المرأة ليست سوى وجود مسبق الصنع، محضّر وجاهز، ذلك على مستوى الكلام والرغبات بشكل عام. هي غرض للتملك فحسب، تتحرك حسب شروط الرجل. هو يمتلكها، ومن خلال امتلاكه لها يشرعن سلطته عليها لتعيش ككائنٍ مسلوب، بحالةٍ مليئة بالاغتراب، وبدور مفروض عليها يحصرها في ثلاثية «الابنة، الزوجة والأم».
يأخذنا هنا الحديث لتأمل هذا الشكل من السلطة، وللتأكيد على رؤية فوكو الذي رأى أن السلطة «لا توجد في المجال السياسي فحسب، فلا بؤرة مركزية لها وهي في كل مكان». لذلك إن هذه السلطة التي تطاول جسد المرأة إذ بها تخضعه للعنف والإكراه، تحدد له طريقة لباسه كما أنها تشترط عليه كيفية الحركة والتكلم. سلطة تريد لهذا الجسد أن يتماهى، إلى حدّ الامّحاء، مع جدران المنازل، ما يعني التورط إلى أبعد حدّ مع الاختفاء الذي تتيحه العتمة. توظف مجتمعات السلطة الأبوية كل أدواتها، ومخيلتها، وخطابها للتضييق على المرأة، وللانتقام من جسدها عبر حجبه وإخفائه. يراد للمرأة أن تكون ليلاً: فإما أن تخضع فتكون مُلكاً للرجل الذي بدوره يعمد إلى إخفائها، وإما أن تكون متفلّتة من القيود، يعني أنها حرّة- على الأقل لأنها اختارت الخروج من القيود- لكن ما حريّتها سوى علامة يستجاب لها كإشارة تفيد بالإمتاع والإغواء، أي كل ما ينجم عن معجم الليل في حقل السائد والمبتذل، وأوّل مصطلح يطفو على صفحة هذا المعجم هو الخطيئة.

ظناً أننا نفتقر إلى «موديل»
تتبلور صورة المرأة الشريرة أو «المرأة الشيطان»، حاملة دلالات العتمة والظلمة والخطيئة والشر، كلما تمعنّا في الحكايات الشعبية والأساطير الخرافية. لكنّ تاريخ المرأة أيضاً مليء بلمعات برّاقة. من أسطورة زنوبيا وصولاً إلى أسطورة بلقيس وغيرهما، إلا أن المتخيل الشعبي المشبّع بتصوراته المهيمنة والذكورية والذي راج بشدّة منذ القرن التاسع عشر، مصاب بفكرة حرمانه حرماناً قاتلاً جرّاء افتقاده لامرأة «نموذج». امرأة نموذجية يخلقها على صورته ومثاله، وافتقاده لها يجعله يبحث عن تعويض لكي يسدّ النقص الذي اعتراه. لقد قولب المعتقد الرائج في حاضرنا (المعطوب) اليوم المفاهيم وشوّه الدلالات؛ فرمز الجمال الشرقي والمعرفة والحكمة مثل «شهرزاد»، المتمردة على علاقات قصور الحريم ونظمها وقوانينها، وفاتنة سرد حكايات الملوك وأخبار الأمم، أضحت مثالاً للمرأة المثيرة التي تفضح عري بنات جنسها وتصف أدق خصوصياتهن مع أزواجهن. نتحمل اليوم أخطاء وعي شعبي خرّب الرموز وكان ضحية انهزاماته. نأمل أن نرى النساء يقتنصن الليل ويخرجن توقاً نحو الحرية.