عندما عرف البشر الليل، جاءت معه إملاءات التاريخ المُحذّرة، لأن «البداية» سحبت الليل من ياقته وأفردت له سيادة مُبكرة. في الميثولوجيا الإغريقية، وُجدت «كاوس» كإحدى أولى الآلهة في اليونان القديمة، وهي إلهة المكان اللانهائي، المُظلم والأبدي، ومنها وُجدت «نيكس» إلهة ظلام الليل.عُرف الليل بالقدرة على الكشف، وبالخطورة والقداسة. ولّد ذلك إدراكاً لضرورة الحذر تجاه فاصل من نصل حاد، يُفرّق ما بين التماهي مع الوجود، وبين الدخول في تهلكة الطبيعة. حينما تطأ قدم ما بُعداً جديداً عليها، يكون وقوفها على حافّة الهاوية باحتمالات عدّة: إمّا العودة بروح جديدة، وإمّا السقوط ضريبة تجاوز خطوة غير آثمة في حق استقلالية الطبيعة.

«يأس» (2009) للفنان المصري هاني راشد

ربما، وخلال المساحة الزمنية بين الليل الناشئ والليل الحديث الذي نعيشه الآن بظل وحشية المكان، علينا التمهّل في تتبّع النشاط اليومي. كم مرة سرت في قلب الليل، تُعرّيك غيوم السماء بغطاء وهمي، وأمامك الشارع ممتد كأنه الأبدية؟ كم مرّة قمت بذلك، وأنت تلتفت من وقت لآخر بحثاً عن ماضٍ يحوم في رأسك، أو تطلّع مُخيف ومقلق، أو ربما تلتفت بحثاً عن اللاشيء؟!
خلال النشاط اليومي، الذي يغذّي التاريخ، تُفكّك يوميّاتنا مع الليل ومُدن العمارة الحديثة قدرة الجماعة على الاحتماء ببعضها أو بالمكان. تلفظ المدن أفرادها، تفقدهم آليات الدفاع الحميمية، وبذلك تكون الالتفاتة محاولة تفكيك للمشهد المرئي. القاهرة تمتاز بقدرة تشرّب تطورات اليومي والمعاصر من دون انتقاء، حتى إن يومها هو مادة فعّالة لاستيعاب قدرة مفردات المكان ومناخه على التهجير، إذ يسير كل واحد منفرداً، في قلب تيه أبدي، مهما توهّم أنه بين جماعة ما.

ليل مقروء
مدفوعاً بحلم تحقيق الذات، وضّب الكاتب المصري خيري شلبي (1938- 2011) حقيبة ملابسه وترك العمل بائعاً في القطارات بالإسكندرية وانتقل إلى القاهرة. للمرّة الأولى كان يواجه المدينة المركزيّة وحده، وكانت القاهرة آنذاك حلماً ضرورياً لكل الأقاليم البعيدة عنها والقريبة، نظراً إلى خيبة المشروع الناصري في تأسيس كيانات إنتاجية بعيداً عن القاهرة لتحجيم تكدّسها، وكانت النتيجة المزيد من التكدّس. في قلب الليل، وخلال بحثه عن مأوى عند المعارف والأصدقاء، يتيه خيري في أبدية أفق مُظلم، يوثّق ذلك في سيرته الروائية «موّال البيات والنوم» قائلاً: «هذه المدينة التي أذكر أنها تبدو مفتوحة في النهار، موصدة في الليل كمصيدة الفئران».
في مطلع الرواية المذكورة، يتجلّى الليل كاشفاً تضادّات المدينة، إذ تنتقل من فتح ذراعيها للجميع نهاراً، وفي الليل تبدأ في التقاط فرائس للتغذية، لا تقوم بالقضاء عليها، بل تفقدها شعورها بالوجود، وبالحضور الشخصي، وباستيعاب شغل حيّز ما من العالم الصغير المرئي، وأيضاً بالاشتباك مع المكان، أي إيجاد تعريف مبدئي له.
يُشاركنا شلبي بحثه المبدئي عن ذاته في الرواية «لعلّي أنا نفسي قد تلاشيت، فتحوّلت إلى خاطرة محلّقة تحت مظلة كبيرة من السحب الداكنة الغامضة». تظهر تشكّلات الليل باتحاده مع المكان، والعمل بآلية «المراوغة والإيهام». أن تكون اللحظة الراهنة مُلتبسة مثل فضاءات الليل، وربما كُتلة من التضادات مثل الليل أيضاً، تستحيل قراءة المكان الليلي، الذي يبدو كوهم منثور في الفراغ، ينطوي على قسوة السماء الداكنة الغامضة. في هذه اللحظة يتصدّر البحث عن الشعور بالوجود وعن مُسبباته قائمة المتطلّبات البشريّة، ويكون جوهر «الأزمة» هو التوقف عند السؤال فقط «يشملني توق شديد إلى معرفة من أنا، وما هي شغلتي، وما علاقتي بهذه المدينة وبهذه المنطقة منها على وجه التحديد». يأتي ذلك السؤال المُباشر رغم محاولة اختبائه وراء المجاز الروائي، مع أن غاية خيري شلبي من الانتقال إلى القاهرة كانت واضحة، وهي أن يتحقق ككاتب، وأن يُجرّب موهبته وقدرته على النجاح في الكتابة.
من جانب تفاعلي، يُعرّف عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي مارك أوجيه الأمكنة في كتابه «اللامكنة: مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المُفرطة» على أنها «نسيج علاقات وتفاعلات ورموز وملامح حضرية». حينما يفقد المكان هذه الأدوات، «يُصبح على مستوى مجتمعي «لا مكان»». القاهرة هي مكان مُتوهّم بلا شك، لو أعدناها إلى قياس التعريف السابق. السؤال الأكثر اشتباكاً مع سياق المقال، هو مدى تدخّل الليل في تحويل المدينة الشاملة إلى «لا مكان» رغم تُخمتها من حيث شروط التعريف المكاني. يعملُ ليل القاهرة في رواية شلبي، على نزع ما تختبئ وراءَه المدينة من أقنعة، وخلال هذه العملية اليومية، يستحيل الإنسان فأر تجارب، حيث ينطق نيابة عن التاريخ.
يعملُ المجاز في معادلة القاهرة/المكان والليل، والإنسان بينهما، مثل كشّاف يُقحم نفحة من النهار، وهذا هو أحد آمال الإنسانية في المقاومة. لكن هل يقف المكان صامتاً أمام فقدانه لتعريفه؟ هل استسلمت القاهرة لليلها سريعاً؟
إن مدينة العاشر من رمضان هي أحد امتدادات القاهرة التي نشأت في السبعينيات، لتخفيف تكدّس المدينة المركزية من ناحية، ولجذب رؤوس الأموال لإنشاء خطوط إنتاج صناعي من جهة أخرى. خرج من عباءة القاهرة طرفان صناعيان، بيوت ومشاريع تسكين تعاونية يحيطها ويخترقها عدد من المصانع. في النهار يحيا المكان بالبشر، يسير الأولاد إلى المدارس والعُمّال إلى شواغلهم، بينما يختبئ صوت الماكينات مؤقتاً، ويعود في الليل. يعتلي الليل عرش تسمية المدينة التي توقفت في منتصف التكوين، ولم تعد تعرف إلى أي اتجاه تذهب. ينامُ الناس مبكراً، تتوقف خطوط المواصلات العامة، يعلو صوت المداخن، ومعه صوت ماكينات المصانع، لا يُسمع صوت بشري، فحركة العربات في قلب الليل استثناء، كذلك البشر. هناك بضعة كلاب تنبح، تُقاوم لحظة الليل التي تبدو أبديّة من فرط التمكّن، هدير الماكينات ونباح الكلاب يواصلان تصاعدهما.

ليل مرئي
يعمل خالد على صناعة فيلم عن القاهرة في فترة اسثنائيّة ما قبل ثورة يناير 2011، وخلال ذلك يربط بين المدينة ومناخها الزمني، وبين مرض أمّه. هناك أيضاً خيبته العاطفيّة وبحثه عن شقّة للإيجار، ويُغلّف ذلك كله تتبّع صابر ودؤوب باتجاه الكشف عن روح المكان.
في فيلم «آخر أيام المدينة»، اشتبك المُخرج تامر السعيد مع القاهرة، كتركيب مكاني ضخم وممتد، خلال لعب طفولي ومرح، رغم أنّه يأتي من قلب شخص حياته مُفعمة بالمرارة. لا توجد آليات (نوعية) على مستوى التصنيف السينمائي، ثمّة قاعدة واحدة، هي تتبّع المكان وتقاطعاته مع تجربة خالد الحياتية، التي تجعل قراءته للمكان وأحداث حياته تجربة تنأى عن المجاز السينمائي. خلال حوار سابق لنا مع تامر السعيد (مجلّة الفيلم- عدد يناير 2021)، قال تامر إن فيلمه الذي امتد العمل عليه لمدة 10 سنوات كان «بحثاً عن روح المدينة، عن تعريف لها». لم يكن يشغلني الليل في مُشاهداتي القديمة للفيلم، لكنني عدتُ إليه أثناء كتابة المقال، وخلال ذلك كشفت القاهرة في آخر أيّامها قبل لحظة الثورة الاستثنائية، عن تعريف أكثر تطوّراً من تعريف خيري شلبي في «موّال البيات والنوم»، حيث لم يعد الإيهام والمراوغة كافيين لإيضاح سلطة الليل على الكشف والتعرية. تجلّت مناورات أخرى، كان أكثرها نقاءً هو العمل على قتل الانطباع، وجعل التيه لحظة أبدية.
في الفيلم، يعكس النهار إملاءات الليل له، تتحول الجماعة إلى صخب دائم، وتبدو يوميّات البحث عن العيش مُستحيلة، وبالتالي يأتي الليل منفرداً بشخص أو جماعة. فقط تسير الأشياء برتابة وملل، والليل هنا كاشف كفاية، كي يبدو المكان شائخاً وهامداً، لا يطمح حتى لمراوغة أفراده.
باستثناءات قليلة، تشملُ بوادر غير مُعلنة للثورة، أو لحظة حب، أو فرحة جماعية تحتفل بها القاهرة ليلاً كل عدّة سنوات، فإن سكون المدينة يحملُ معه أثر تاريخ طويل من الاشتباك بين الليل والمكان. لم تعد هناك مقاومة، ولا يوجد لدى الطرفين تقاربٌ في موازين القوى ليتّحدا على السائرين بالشوارع. ثمّة استسلام لسلطة الليل الذي يتسلّم المكان بهدوء، وبأمر يومي يُسلّمها للنهار، لتدور في دورة شيخوخة أبدية.
لو لعبنا مع الزمن بذات المرح المجازي في الرواية والفيلم، وقلبنا آية الالتفات خلال الليل، سينظر خيري شلبي من موّاله إلى خالد في المدينة التي تعيش آخر أيّامها، ويخُبره أن محاولات التعريف البائسة أسوأ من لا شيء، غير أن المكان عند خالد، لم يعد يحتملُ أيّ محاولات أخرى.
ليل القاهرة الذي نراه في الفيلم، في أحد أوجهه، ليل شائخ لمدينة لن تموت. للشيخوخة تعريفات، خبرة مع الزمن، أو على الأقل جملة حكيمة واحدة تُقال لمن يُمكن تغفيلهم في سن صُغرى.
ما يعنينا من فيلم «الخروج للنهار» (2012) لهالة لطفي مشهد وحيد. سُعاد هي ابنة فقيرة لأب مريض وأم تستنزف ما تبقّى من حياتها في دوامات الليل والنهار، إذ تعملُ ممرضة في المستشفى. تسيرُ سُعاد في القاهرة ويبتلعها الخارج، لكن مُعظم سيرها يأتي في النهار، وكأنّ هناك اتفاقاً مُسبقاً على تقبّل فوات الأوان لكل شيء، للحياة، للاستقلال، وللحب والزواج أيضاً. في الليل، بعدما تُصرّ والدة سُعاد على عودة ابنتها إلى البيت بعد الاطمئنان على أبيها في المستشفى، تسير الأخيرة بمحاذاة مجرى سور العيون، ثم تجلس وهامش المدينة والليل الطويل، وحينما يطلع الصباح تكمل سيرها وتعود للبيت.
الأكثر سوءاً من السير نحو شيخوخة تؤول إلى الموت، هو عجزُ القاهرة، والليل الذي ينتزع منها بطولة اللحظة الأخيرة. تأتي الشيخوخة لتُثبت معنى، لتوثّق تجربة، لن تتم إلا بالموت، أو بميلاد جديد، ولو خلال مُفردة جديدة واحدة، بينما أبدية هذه الشيخوخة هي أن تستحيل التجربة، ومعها المعنى، إلى لا شيء.
تحقّق اللاشيء، المُبطّن بالأبدية، ذات مرة، في شارع الهرم بالقاهرة. تحفلُ ليلة الخميس أسبوعياً بصخب الكازينوهات على امتداد الشارع الطويل، فيشغل الصخب حيّزاً أكبر من الليل، ومن زحام الشارع. في لحظة استثنائية يسكت كل شيء، وتذهب النسوة المحظوظات مع من اختارهنّ من الرجال. من بين عدد قليل باقِ، مرّت امرأة تكشفها سنّها المتجاوزة لنجومية العمل في الكازينو، ويفضحها بؤسها المتسائل عن الفارق بين صخب الداخل وفزع الصمت الخارجي، تمشي أسفل سماء غائمة، وتصلُ إلى آخر الشارع الفارغ، تنتظر أي سبيل يعيدها إلى المنزل.
لم تلتفت، أتذكرُ جيداً حين كنت أراقبها من النافذة. ربما انتظرت حتى طلوع الفجر لكي تجد ما يُعيدها إلى البيت والحياة.