أُدعى إليان الأميوني. أبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً. أنا طالبة لبنانية_كندية وأتابع دراستي في مرحلة الدكتوراه في جامعة «واترلو». تتناول أطروحتي مجال ثقافات الشباب الفلسطيني والهويات السياسية. درست الأدب الإنكليزي في مرحلتَي بكالوريوس الآداب والدراسات العليا (ماجستير) وقد استحوذ حينها الكُتاب الأميركيون الذين ينتمون إلى الثقافة المضادة على اهتمامي؛ بداية من والت ويتمان وصولاً إلى هانتر تومسون. في الثاني من شهر آذار عام 2021، وللمرة الأولى، قابلت وجهاً لوجه تلك الفكرة العظيمة والمجردة الّتي أرّقت جميع المؤلفين الذين أقدّرهم: الحلم الأميركي.
(تصميم: فرنسوا الدويهي)

غادرت بيروت صباح الثلاثاء، ثم وصلت إلى مطار سان فرانسيسكو بعد اثنتين وعشرين ساعة من السفر. وصلت إلى وجهتي الأخيرة عند الرابعة مساء: سان دييغو. السبب الأساسي لتوجّهي إلى سان دييغو، كان من أجل تأليف كتاب حول تجربتي في العيش والعمل هناك في العام المنصرم، أردت أن أتحدّث فيه عن جميع الأشخاص اللطفاء الذين قابلتهم، وعن تعلّقي بتلك التجربة التي عشتها في أميركا. ببنطالي الكامو، وبسترةٍ عسكرية، توجّهت وبيدي كتاب «الصهيونية في زمن الديكتاتورية» لمؤلفه ليني برينير نحو شرطي الجمارك القابع في حجرته الزجاجية وسلّمته جواز سفري.
- من أين أتيتِ؟
- بيروت
- ألم تتوقّفي في الدوحة؟
- صحيح
- إذاً أنت قادمة من قطر.
- نعم، لكنّي في الأصل قادمة من بيروت.
- وهل زرت اليمن أخيراً؟
- اليمن؟ كلا!
كان مُصرّاً على سؤالي عن اليمن، بلهجةٍ لاذعة تحمل تأنيباً متربّصاً بحال كان جوابي نعم. ومن ثم، راح يسألني عن عملي وعن كيفية جنيي للمال، وعن سبب وجودي في أميركا العام الماضي. طيلة ذلك الوقت، كان يقف خلفه شرطي أبيض قصير القامة، ويهمس في أذنه أسئلة واستفسارات. سألني مرة أخرى عن اليمن، وأعطى جواز سفري إلى الرجل القصير. «حسناً، يا آنسة، سوف يصطحبك هذا الشرطي من أجل مزيد من الأسئلة». لم أكن قد دخّنت سيجارة واحدة منذ مغادرتي بيروت. «لا تقلقي يا آنسة. سوف ننتهي من هذا عاجلاً، وسوف تحظين بسيجارة».
فور دخولي إلى مكتب الهجرة، توجّه تركيزي إلى الأوجه المتعبة، والأجساد الملتصقة بكراسي الانتظار. كانوا بأغلبيتهم من ذوي البشرة الملوّنة، وقد بدت حالاتهم مأساوية للغاية، بينما يجلس رجال الشرطة خلف مكاتبهم، يتفقّدون جوازات السفر، ويلقون الدعابات في ما بينهم ويضحكون بصخب. تيقّنت حينها أن مصطلح «عاجلاً» الذي استعمله الشرطي، لم يكن سوى مجاملة ديموقراطية بغية إبقائي هادئة، لأنني عرفت أنني أمام مأزق تراجيدي كبير.
انهالت عليّ الأسئلة. أسئلة كثيرة متطفّلة ومكررة. تبدأ من سبب وجودي هنا، وتتساءل مجدّداً عن طريقة حصولي على المال، ومرة أخرى، عمّا إذا كنت قد زرت اليمن. ثم طلبوا مني الانتظار. بعد ساعة، أدخلوني إلى حجرة صغيرة تشبه الزنزانة، حيث كانت تنتظرني شرطيّتان لتقوما بالواجب. عندما حان الوقت، بدأتا بتنفيذ مهمتهما بعنايةٍ: جرّدتاني من ملابسي، فتّشتا أمتعتي، نبشتا كل جيوب ثيابي، قرأتا كل عناوين الكتب التي بحوزتي-وكانت جميعها عن فلسطين- ثم قادتاني إلى حجرة أخرى صغيرة هي عبارة عن جدران بيضاء مخيفة، تفوح منها رائحة عفنة. جلس شرطي شاب ذو بشرة لاتينية داكنة خلف جهاز حاسوب ليأخذ إفادتي، طرح عليّ الأسئلة مرة أخرى مسجّلاً إجاباتي. بينما كان الأمر على وشك الانتهاء، استدار الشرطي الأبيض القصير ليعلمني بأنه لن يُسمح لي بالدخول إلى الولايات المتحدة؛ فقد عملت السنة الماضية في نزل من دون تأشيرة، وهذا مخالف للقانون.
عندما أفادني بالخبر الذي كان وقعه عليّ أشبه بالصاعقة، كان يُفترض بي أن أقرّر ما إذا كنت سأتوجه إلى كندا، أم أعود مجدداً إلى لبنان. وبالطبع، في حالةٍ كهذه، وفي وضعٍ مماثل، يخطر لأي شخص أن يستشير عائلته قبل اتخاذ قراره، الأمر الذي استغربه الشرطي، ورفضه، فطلبت رؤية مديره. عاد بعد دقائق غاضباً، محمرّ الوجه، بصحبة امرأة بزيّ رسمي: «أنا شرطية، وأعتقد أنني قد أستطيع التفاهم معك أكثر من هؤلاء الرجال». كان المكان معجوناً بالعفن، ليس العفن العنصري فحسب، بل عفن كراهية النساء أيضاً الذي امتثلت له النساء أنفسهن. «عظيم، إذاً تفهمين أني بحاجة أن أتشاور مع عائلتي قبل اتخاذي لهذا القرار المصيري».
«يا آنسة، أنت شخص راشد، لو كنت طفلة، كنا لنسمح لك بالاتصال بـأحدهم، لكن بما أنك راشدة فأنت قادرة على اتخاذ قراراتك».
عقب رحلتي الأولى إلى كاليفورنيا دوّخني خليط الناس والألوان واللغات التي بدت مندمجة بتناغم، ما جعلني أتساءل عن السبب الذي دفع أمثال هانتر تومسون وجاك كيرواك إلى معاداة وتدمير مكان برّاق بهذه السعادة. لكن في ذلك اليوم أصبح قول آبي هوفمان الشهير: «رجال الشرطة هم خنازير» مفهوماً وواقعياً للغاية. لقد تمكنت من رؤية هؤلاء الأشخاص يخنقون رجلاً حتى الموت. رأيتهم يقتحمون منزل امرأة سوداء ويطلقون النار عليها بدم بارد.
لا تبالغ الأفلام في ما تعرضه. عدم تصديقي لها لاعتباري بأن ما أشاهده هو مبالغة أو مجرّد شريط سينمائي جعل من الموقف الذي مررت به حقيقة قاسية لم أكن مستعدة لها.
«سيّدتي، في مجتمعي لا نتخذ القرارات المصيرية بمفردنا، بل كعائلة. لم يطردني أحد من المنزل حين بلغت السادسة عشرة». كان صبرها ينفد وصوتها بدأ يعلو: «حسناً يا آنسة سوف نتّصل بأحد معارفك. هل لديك الرقم؟»، أجبتها بأنني لا أحفظ أرقاماً وأنني بحاجة إلى إخراج هاتفي. علمت فوراً، بعد أن سلمني الشاب اللاتيني هاتفي أنه عليّ التصرف بسرعة، فاتصلت بشريكي وشرحت له الوضع بسرعة طالبةً نصيحته. في اللحظة التي فتحت فيها فمي لأتكلم، تنبّهت الشرطية إلى أنّي أهاتف أحدهم، فصرخت بأعلى صوتها وضغطت رأسي على أقرب حائط، وشدت ذراعَيّ إلى خلف ظهري، ثم انتزعت هاتفي وكبّلتني.
صُدمت وشعرت بالتقهقر، وبينما كان رأسي محشوراً على الجدار البارد، رحت أبكي. عندما رأت الشرطية خوفي، بدأت تسألني مراراً عن الدواء الذي أتناوله، معتبرة بقناعةٍ تامّة أن المشاعر التي تتملكني مردّها إلى حاجتي للمسكّنات، وعليّ أن أتناول «دوائي». عجزها عن تصديق أنّ كل ما أردته هو التحدث إلى أهلي فحسب، دفعها إلى معاملتي كإرهابية مختلّة. بعدما علت الضجة وانتبه الجميع إلى ما يحدث، أتى شرطي آخر تعلو وجهه نظرة استغراب من العنف الذي شاهده. «نتعرض لموقف عدائي، سيدي، إنها ترفض الإجابة عن الأسئلة كما أنها ترفض الانصياع لأوامر رجال الشرطة» ليجيبها بأنّ عليها أن تأخذني إلى جناح G.
الجناح G هو سجن المطار. في البداية حُشرت في غرفة صغيرة رطبة بجدران بيضاء لا نوافذ فيها، فيها مقعد فولاذي، مع كاميرا على رأس الباب. وُضعت هناك حتى «أهدأ». ومن بعدها، دخل شرطي آخر آسيوي الملامح، ليتحدّث معي ويأخذني إلى زنزانة أخرى حيث يوجد مرحّلون آخرون. في طريقي، رأيت وجوه الموجودين المتعبة، وأجسادهم المصلوبة على الكراسي السوداء كأنهم قضوا حياتهم هناك. نظراتهم اليائسة انطبعت على الفور في ذهني بينما كانت الشرطية تمسك بذراعي بقوة وتقودني إلى أحد المقاعد. امرأة رومانية كانت تجلس في الصف الأمامي، التفتت نحوي مراراً بنظرات مشبعة بالقلق، كأنها تودّ أن تطمئنني وتعلّمني بأنها تعرف جيداً ما أعانيه. لم تكن تتكلم الإنكليزية. لم يكن أيّ من الموجودين يحدثها.
مكثنا هناك لثلاثين ساعة إضافية. كنا جميعاً نتداعى في تلك الزنزانة الموحشة، جناح G، حيث لا ينطفئ الضوء أبداً. بدا الأمر شبيهاً بمشهد من رواية أورويل 1984. كان الحراس يجيئون ويذهبون، يلقون الدعابات ويضحكون، يحتسون قهوتهم، ويحدقون فينا كأننا لسنا سوى وحوش. لم يَسمح لنا الاقتراب من أمتعتنا، لم يسمح لنا بالتحدث. وعندما طلبت مفكرتي، قالوا إنه من غير المسموح أن أحصل على قلم. رأيت مسدساً على خصر كل شرطي. رغم ذلك، كنت أنا هي المهدِّدة، وتهمتي أنني إرهابية وطئت قدماها الولايات المتحدّة.
تركونا طيلة الليل على تلك المقاعد، تحت الضوء الأبيض الزائغ. شعرت بالغثيان نتيجة تعرّضي لموجات من البرد والحرارة، حتى إنني أصبت ببعض الهلوسات. في مرحلة ما، وجّهت تركيزي إلى بقعة مصقولة في الزاوية أمامي حتى اقتنعت أن الزاوية كلّها مخلخلة. أدرك الآن أن ذلك لم يكن سوى كناية اختلقها عقلي في تلك اللحظة لأن البلد الذي أقنعني بقيمه وجماله الظاهر وحريّته المزعومة لم يكن سوى إيمان مزيّف. في الجناح G نموذج مصغّر عن «غوانتنامو». هو أقرب ما يكون إلى الديكتاتورية في بلاد مرتابة، تخشى أن يعارضها أحد، وتهمة الجنون فيها جاهزة للصقها في كلّ لحظة بكل من يحاول أن يعبّر عن نفسه بطريقته الخاصة، من دون الخضوع إلى شروطها. أميركا التي قرأت عنها، التي اعتقدت أنني أعرفها ليست سوى قناع.
لم تفاجئني العنصرية نفسها، فهذا معروف، لكن ما فاجأني هو سطوة هذه العنصرية. لم أكن في الجناح G لأنّي كنت أتسلّل بالخفاء إلى أميركا، بل لأنّي أجريت مكالمة هاتفية اعتُبرت خطيرة. بحسب الشرطية، لقد كان اتصالي يهدد الأمن القومي، ويهدف بحسب زعمها، إلى إرسال السلاح إلي! لقد كانت متوجّسة من طالبة دكتوراه، متهمة إيّاها بتجهيز ميليشيا خارج مطار سان فرانسيسكو.
تقول أنايس نين: «لا نرى الأشياء بما هي عليه، بل بما نحن عليه». وهناك في مطار سان فرانسيسكو، وبينما كان رجال الشرطة المتوحّشون يتهمونني بالانخراط في عمل مسلح وحرب عنصرية لم يكونوا يرونني أنا، بل رأوا أنفسهم. لم يروا طالبة كندية آتية إلى أميركا، بل رأوا إرهابياً عربياً متخفّياً ومتعطّشاً للدم، بالتآمر مع بعض الجماعات اليمنية، لأن هذا ما يخفونه في دواخلهم. إنهم هم من شنوا الحرب على اليمن، وموّلوا الجماعات الإرهابية، وقصفوا الأطفال وجوّعوهم وهم من خلقوا ودعموا الأشرار الذين أخذوا على عاتقهم تدميرهم.
بعد حوالى اثنتين وعشرين ساعة، بعد شروق الشمس، جاء شرطي ليأخذ طلباتنا للفطور الصباحي. أخبرته بأني لست جائعة.
-نحن مجبرون على إطعامك، فاختاري من فضلك.
-حسناً، لكنّي لست مجبرة على الأكل.
-حسناً إذاً سأختار لك. شطيرة لحم الخنزير.
رحل ثم عاد بعد دقيقة يحمل ورقة:
- يا آنسة، أنا أنظر إلى اسمك هنا، هل يجوز لك أن تأكلي لحم الخنزير؟
- المعذرة؟
- أفترض أنك مسلمة كما يُشير اسمك هنا.
- وكيف يكون هذا من شأنك؟
- هل يجوز للمسلمين أكل لحم الخنزير؟
- من يجيز ذلك؟ الله؟ وما شأنك أنت بيني وبين الله؟ عدا أنّ إليان هو اسم مسيحي.
كانت المفاجآت لا حصر لها. قراءتي لتومسون وهوفمان واطّلاعي على الثقافات الأميركية المضادة، المشاكسة والرافضة خلال نشأتي عرّفاني إلى كلّ أشكال التعصّب ومعاداة الأجانب. أدركت أنّ هناك ما هو فاسد في البنية كلّها، لكني لم أتخيّل يوماً أن أقع ضحيّتها.
عندما استيقظت في سريري في لبنان، بعد يومين، تساءلت عمّا إذا كان ما حدث حلماً، وقد كان بطريقة أو بأخرى كذلك فعلاً. كان حلماً أميركياً، حلماً يُترجم في الواقع إلى كابوس. ما ظننت أنّي تركته خلفي في لبنان من الطائفية والنظرة الطبقية الشوفينية، طالعني مجدّداً بشكله الأكثر رعباً، وربما في منبعه الأوّل. غير أنّ ما لم أكن أتوقعه هو وجوده هناك؛ في أميركا، أرض الحرية وعرين الشجعان.