إنه إنجاز لا مثيل له، أن ينخفض الفقر في الصين بسرعة وبأعداد كبيرة. هذه الخلاصة التي تعكس إصراراً امتدّ على نحو 40 سنة، ردّها البنك الدولي إلى نوعين من السياسات: محرّكات التحوّل الاقتصادي والحدّ من الفقر، واستراتيجيات اقتلاع الفقر.

أولاً: كانت المحرّكات الأساسية للتحوّل الاقتصادي في الصين عبارة عن سلسلة من التغييرات التي قامت بها الحكومة وتمحورت حول الآتي:
- زيادة إنتاجية القطاع الزراعي: بحسب بعض الفرضيات، فإن مساهمة القطاع الزراعي في تقليص الفقر بين عامي 1978 و2001 كانت أكثر بأربع مرات من مساهمة قطاعَي الصناعة أو الخدمات، إذ إن زيادة الإنتاجية في القطاع أدّت إلى زيادة في دخل المزارعين، فيما جرى تحرير العمالة الفائضة من القطاع الزراعي. وقد تمّ ذلك من خلال إصلاحات في الأراضي الريفية الزراعية، وتحرير الأسواق وأنظمة التسعير، وخفض الأعباء الضريبية المتصلة بالزراعة، وزيادة دعم القطاع، فضلاً عن الاستثمار في المكننة الحديثة وأنظمة الري وتنظيم أسواق المنتجات الزراعية وبذل جهود في مجال إثراء الأبحاث الزراعية لزيادة الإنتاج الزراعي.
- التطوّر التدريجي في الصناعة: كان التصنيع مساهماً أساسياً في النموّ الاقتصادي، إذ إن القيمة المضافة الصناعية للصين زادت بنسبة 10.3% سنوياً. وخلال الفترة ما بين عامي 1978 و2020، توافرت فرص عمل أكثر وأفضل مع توجيه فائض العمالة في القطاع الزراعي إلى القطاع الصناعي. فمنذ الثمانينيات ركّزت الصين جهودها على السلع الصناعية المعدّة للتصدير من خلال استغلال ما تملكه من ميزة نسبية مصدرها الصناعات الخفيفة التي تحتاج إلى العمالة الكثيفة، وهو ما أعدّ القطاع الصيني ليصبح وجهة استثمارية تنافسية على نطاق عالمي. وفي منتصف التسعينيات أصبح الجزء الأكبر من النموّ في الناتج المحلي الفردي يأتي من الصناعة. وبالاستفادة من الطلب الخارجي والمناطق الاقتصادية الساحلية الجاذبة للاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا، وصلت صادرات البلاد من السلع في عام 2019 إلى 2.49 تريليون دولار. واستفادت الصين أيضاً من توقيع اتفاقية مع منظمة التجارة العالمية لتعزيز صادراتها من السلع الصناعية لتنمية حصّتها من التجارة الخارجية من 39.6% من الناتج المحلي الصيني في عام 2000 إلى 63.8% في عام 2005.

70%

من مجمل انخفاض أعداد الفقراء حول العالم مصدره انخفاض معدلات الفقر في الصين حيث انتُشل نحو 800 مليون من تحت خطّ الفقر المعتمد من البنك الدولي


وإلى جانب الطلب الخارجي، ظهرت فرص صناعية في المناطق الريفية لإنتاج سلع غير متوافرة في السوق المحلية امتصّت العمالة الزراعية الفائضة، وهو ما أدّى إلى زيادة في عدد المشاريع الصناعية المؤسسة في الريف من 1.5 مليون في عام 1978 إلى 23 مليوناً في عام 1996، وولّد هذا التطوّر نحو 130 مليون فرصة عمل في عام 2003.
في الواقع، إن الزيادة الكبيرة في فرص العمل الريفية، كانت عاملاً حاسماً في مكافحة الفقر الريفي في العقدين الأولين من الإصلاح والانفتاح. في هذه الفترة شاركت بعض البلديات (حكومات محلية) في إقامة مشاريع سرعان ما تحوّلت إلى ريادة الأعمال من خلال الحوافز الضريبية التي أتاحتها السلطات المحلية.
- إدارة التمدّن والهجرة نحو المدن: بالتوازي مع التطوير الزراعي والصناعي، بدأت المدن تظهر أكثر فأكثر، وهذه كانت إحدى علامات تقلّص معدلات الفقر في الريف. فحتى عام 2000 كان أكثر من نصف الصينيين المنحدرين من عائلات فقيرة، لديهم فرد على الأقل يعمل خارج مدينته «مهاجر أو نازح»، علماً أن دخل المهاجرين العاملين ازداد أربعة أضعاف بين عامي 2005 و2019. التحويلات المالية من المهاجرين والنازحين إلى أسرهم كانت سبباً مباشراً في انتعاش الريف. وارتفعت حصة الأسر في الريف من مداخيل المهاجرين والنازحين، من 40% في عام 2004 إلى 55% في عام 2012، أما العائلات التي كان بين أفرادها مهاجر أو نازح، فقد كان لديها ناتج محلي فردي أكبر بنسبة تراوح بين 8.5% و13.1% من العائلات التي ليس لديها أفراد مهاجرون أو نازحون.
وبحسب الباحث «كينان وانغ»، فإن زيادة بنسبة 1% في حجم القوى العاملة الريفية المهاجرة إلى المدينة، تؤدي إلى انخفاض في فرص الوقوع في الفقر بنسبة 3.2%، كما أن زيادة مماثلة في القوى العاملة الريفية المهاجرة أو النازحة إلى المدينة، تؤدي إلى انخفاض في نسبة البقاء في الفقر بنسبة 3.5%.
- الاستثمار الواسع في البنى التحتية: لعب الاستثمار الواسع والمطّرد في البنى التحتية الصينية دوراً أساسياً في دمج السوق المحلية وإتاحة الفرصة أمام الفقراء لعرض منتجاتهم في الأسواق الكبرى والحصول على حاجاتهم منها أيضاً.

ثانياً: اعتمدت الحكومة الصينية سياسات لتقليص الفقر تستهدف تحسين جودة الحياة لسكان المناطق الريفية من خلال الآتي:
- استراتيجيات اقتلاع الفقر المناطقي: أطلقت الصين البرنامج الوطني لتقليص الفقر والتنمية في منتصف الثمانينيات لتلبية الحاجات الاقتصادية الخانقة عقب الانكماش في المداخيل. أولاً استُهدفت المناطق الشرقية والداخلية للبلاد. ثم حُدّدت المقاطعات الفقيرة بناءً على الدخل الفردي العام في كل مقاطعة. وعلى هذا المعيار، استُهدفت 700 مقاطعة من أصل 2100 مقاطعة في الصين. وفي عام 1994، أُطلقت خطة جديدة سُمّيت «8-7 poverty reduction plan»، التي هدفت إلى رفع مداخيل 800 مليون شخص وانتشالهم من تحت خط الفقر الوطني المُقدّر لعام 1985. قامت هذه الاستراتيجيات على تطوير الزراعة وتعزيز فرص الأعمال غير الزراعية في البنى التحتية والخدمات العامة بشكل عام، مثل الكهرباء والماء والصحة والتعليم الأساسي والصحة.

مساهمة القطاع الزراعي في تقليص الفقر بين عامي 1978 و2001 كانت أكثر بأربع مرات من مساهمة قطاعَي الصناعة أو الخدمات


- سياسات الضمان الاجتماعي: حتى منتصف العقد الأول من الألفية، كانت الحماية الاجتماعية متروكة على عاتق البلديات الريفية في الصين، لكن عندما أُقرّت الإصلاحات الاقتصادية التي أتاحت للبلديات المشاركة في عملية الإنتاج، أُجبرت الحكومة على المشاركة أيضاً في السياسات الاجتماعية عبر برامج تمويلية واسعة النطاق. فعلى سبيل المثال، أصبح تعويض الشيخوخة سياسة جديدة تغطّي الريف الصيني. وبين عامي 2009 و2012 قامت الحكومة الصينية بزيادة التغطية لتعويضات الشيخوخة بنسبة 300%، وفي عام 2020 جرت تغطية كل المرشحين. في النتيجة، تبيّن أن التحويلات الحكومية ساهمت، مباشرة، في عام 2013 في تقليص معدّلات الفقر في الريف بنسبة 4%.
- استراتيجيات اقتلاع الفقر الموجّهة: جاءت هذه الاستراتيجيات طبقة إضافية فوق الاستراتيجية السابقة بهدف رفع مداخيل المواطنين بشكل عام، وليس فقط أولئك الذين يعانون من الفقر المناطقي، وجرى التركيز على عمليات التدخل الحكومي المباشر في مجال الإسكان مثلاً، وتنمية المهارات... وفي عام 2014 وصل التمويل للقضاء على الفقر إلى 1.6 تريليون يوان. هناك تقديرات تشير إلى أن برامج مكافحة الفقر المموّلة من الحكومة والبلديات، كان لها أثر إيجابي على الحدّ من الفقر أكبر النموّ الاقتصادي بشكل عام.