كان حجم القطاع المصرفي اللبناني قبل بداية الأزمة ضخماً جداً نسبة إلى الاقتصاد. ففي عام 2018، وهو آخر عام قبل الأزمة، كانت رساميل المصارف العاملة في لبنان تفوق 35% من الناتج المحلّي، وهو بالمقارنة مع بلد نفطي مثل الإمارات، أعلى بنحو 8% حيث تبلغ نسبة رأس مال المصارف إلى الناتج المحلّي هناك نحو 27%، فيما لا تبلغ في مصر أكثر من 3%.
المصدر: مصرف لبنان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

غير أن القطاع المصرفي اللبناني استحوذ على حصّة الأسد من «النموّ» الاقتصادي الذي شهده البلد منذ نهاية الحرب الأهلية في بداية التسعينيات حتى عام 2019.
حقّق هذا القطاع أرباحاً هائلة في فترة ما قبل الانهيار، بسبب النموذج المالي الذي رسمته قوى الحكم وطبّقه مصرف لبنان اعتباراً من نهاية الحرب الأهلية. ففي الفترة ما بين 2010 لغاية 2018 راكمت المصارف أرباحاً بقيمة إجمالية بلغت 16.8 مليار دولار، فيما الناتج المحلي الإجمالي ازداد بقيمة 17 مليار دولار من 40.3 مليار دولار إلى 57 مليار دولار. والمصارف وزّعت بعض هذه الأرباح على المساهمين فيها، فيما لجأت إلى إعادة استثمار البعض الآخر من خلال زيادات رأس المال وتطوير محفظة الأصول العقارية. كانت حصّة رأس مال المصارف مضخّمة بهذه الطريقة لأنها كانت تؤدي دوراً محورياً في النموذج الاقتصادي الذي قام عليه البلد منذ التسعينيات، إذ إنها قامت بدور الوسيط، أو القناة التي يتمّ من خلالها جذب رؤوس الأموال من الخارج وتحويلها إلى مصرف لبنان الذي يبدّدها وفقاً لأهواء سياسية واعتبارات بعيدة جداً عن أي اعتبارات اقتصادية. وهذا الأخير كان يستخدم الأموال المتدفقة إلى البلد لتثبيت سعر الصرف ولإعادة توزيع الأموال إلى المصارف على شكل أرباح تنبع من الفوارق في الفوائد على الودائع والأدوات المالية التي استثمرت المصارف فيها والتي كان يصدرها مصرف لبنان (كشهادات الإيداع والودائع).
في بداية الأزمة، بدأ هذا الهيكل الوهمي للاقتصاد بالتهاوي. قبلها توقّفت التدفقات التي كانت تغذّي النموذج المذكور. وبانهيار الهيكل، بدأ القطاع المصرفي المتضخّم بالتهاوي. هذا التضخّم لم يكن يعبّر عنه فقط حجم رأس المال بالنسبة إلى اقتصاد بحجم لبنان، بل أيضاً بعدد المصارف الهائل، وعدد فروعها وحتى انتشارها بشكل كبير على جميع الأراضي اللبنانية. ومع بداية «تنفيس» القطاع، بدأت ظواهر تضخّمه تتهاوى. صحيح أن عدد المصارف لم يتغيّر كثيراً بعد في انتظار إقرار قانون لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، لكنّ عدد فروعها المنتشرة على الأراضي اللبنانية بدأ بالانخفاض بشكل كبير. فمنذ عام 2019 انخفض عدد الفروع المصرفية بنحو 25% من نحو 1058 إلى 786 فرعاً. كما قامت المصارف بصرف عدد كبير من موظفيها، الذين لم تعد تحتاج إليهم، إذ انخفض عدد الموظفين بنحو 34%، من 25 ألفاً في عام 2018 إلى نحو 16 ألف موظف في نهاية عام 2022.
إلا أن الاقتصاد اللبناني يقف اليوم على أبواب مرحلة جديدة، وهي التعافي بعد الأزمة. ومن المفترض أن يكون القطاع المصرفي جزءاً من هذا التعافي. والحديث هنا عن القطاع المصرفي بعد إعادة هيكلته وبعد احتساب نتائج الخسائر عليه. وهو أمر قد يتضمّن إعادة إفلاس بعض المصارف وإعادة رسملة غيرها وحتى إعطاء رخص لمصارف جديدة. هذا القطاع، بعد إعادة الهيكلة، يجب أن يكون جزءاً من عملية التعافي بدور جديد، مختلف جذرياً عن الدور القديم الذي كان مرسوماً له، حيث لا أرباح سهلة. هذا الدور هو الدور الطبيعي للمصارف في أي اقتصاد، وهو دور المموّل. أي تمويل المشاريع والمؤسسات التي تساهم في زيادة الإنتاج وتحدث نمواً حقيقياً للاقتصاد، بشكل موجّه من صانعي السياسات الاقتصادية، مستهدفاً القطاعات التي يمكن أن يحقق من خلالها لبنان أقصى ما يمكنه من قيمة مضافة.