لم يُكتب لسجنٍ في العالم شهرة أكثر من سجن ألكتراز الأميركي. ذاك السجن الحربي، الذي كان يُحتجز فيه عتاة المجرمين ممن يُخشى هربهم، يُمثّل في الذاكرة السجن الأسطوري الذي لم يتمكن أحد من سجنائه من الفرار منه حياً، باستثناء ثلاثة هاربين، لم يُعرف مصيرهم، وقيل إنّ أمواج خليج سان فرانسيسكو أغرقتهم.
هذا في أميركا. أما في لبنان، فيكاد سجن رومية المركزي يتخطّاه شهرةً، لجهة عدد عمليات الفرار التي شهدها. المقارنة ليست غريبة؛ فالمجرمون في سجن رومية لا يقلّون خطورة عن نزلاء ألكتراز. هنا «أميرٌ» في تنظيم القاعدة، وأعضاء مجلس شورى فتاوى القتل وهدر الدم. وهنا أيضاً، عشرات «المجاهدين» الذين نفّذوا تفجيرات واغتيالات طاولت مدنيين وضباطاً وجنوداً في الجيش اللبناني، فضلاً عن تهديدهم أكثر من ضابط بالذبح، ممن استجوبوهم، لدى خروجهم. عدا عن مجرمين جنائيين آخرين، بينهم قتلة متسلسلون، سفكوا دماء عشرات الضحايا الأبرياء من دون رحمة.
يمكن الإمعان أكثر في المقارنة. الخارج من ألكتراز مفقود. حتى جثّته يبتلعها البحر، بحسب المتناقل. أما الهارب من رومية، فمعروف العنوان دوماً: قتيلٌ في أرض الجهاد، سوريا، أو مُعتقلٌ في سجونها إثر محاولته التسلّل إلى أراضيها. هكذا تكثر عمليات فرار السجناء للالتحاق بركب المعركة الدائرة هناك. والمشهد بات يتكرر بسيناريو شبه اعتيادي، ما خلا بعض الوسائل الخلّاقة التي يعتمدها السجناء أحياناً. هنا قضبان السجن الحديدية تُنشر بآلات حادة تدخل بقدرة قادر. «الأبطال» هم أنفسهم، سجناء إسلاميون غالباً ما يكونون من تنظيم «فتح الإسلام». ينشرون الحديد ويستخدمون الشراشف حبالاً للتسلّق. يخرجون إلى الحرية، ربما، من دون أن يلحظهم أحد. أما المقصّرون والمتواطئون فضباط ورتباء وعناصر تبقى دوافعهم مجهولة.
صيف العام الماضي، اهتزّ السجن المركزي على وقع أهم عملية فرار تحصل. تمكن خمسة سُجناء من الهروب باستخدام ملاءات الأسرّة للنزول عبر الحائط والاختلاط بزوّار السجن قبل مغادرتهم. الخطير في المسألة أنّ أربعة منهم ينتمون إلى تنظيم «فتح الإسلام» الذي خاض معارك عنيفة مع الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد عام 2007. وفضلاً عن أنّ أخطرهم يدعى محمد عبدالله الدوسري الملقب بـ«أبو طلحة الكويتي» كان يُعدّ سفير تنظيم القاعدة في لبنان، هناك كل من مدحت أحمد (مواليد 1963) سوداني، عبد الله الشكري (مواليد 1984) سوري، عبد العزيز المصري (مواليد 1985) سوري، عبد الناصر سنجر (مواليد 1971) لبناني. ويُشار إلى أنّ المعلومات التي يتناقلها الإسلاميون تُفيد بأنّ أبو طلحة المذكور وقع في قبضة أجهزة الأمن السوري أثناء محاولته التسلل إلى الداخل السوري، علماً بأنّ المجموعة التي كانت ترافقه وقعت في كمين للجيش السوري فسقط أفرادها بين قتيلٍ وجريح.
وبالطريقة نفسها، سبقهم في الهرب القيادي في تنظيم فتح الإسلام الشيخ وليد البستاني. كان الأخير يُعدّ العدّة قبل فراره، فراح يمارس الركض يومياً لنحو ساعة. وبقي على هذه الحال خلال الأشهر الأخيرة من وجوده في السجن، حتى إن بعض النزلاء كانوا يتهكّمون عليه أحياناً. كانت الخطة تقضي بأن يفرّ البستاني مع شخص آخر. لكن عندما حانت الساعة الصفر، كسر الآخر قدميه إثر سقوطه عن سور السجن. ويُروى أن البستاني وقف بجانب صديقه، رافضاً الفرار وحده؛ لأنّهما خططا للأمر معاً، فرفض السجين المصاب، طالباً منه الإكمال وحده. حرّره من أي التزام أخلاقي، فسحبه البستاني إلى جانب شجرة ثم أكمل وحيداً. مرّت شهور طويلة ليخرج بعدها البستاني إلى العلن، ويعلن الإمارة الإسلامية في القلعة في منطقة القصير السورية. بعدها بفترة قصيرة، انتشرت مقاطع فيديو تبيّن محاكمته وتصفيته لقتله مسلّحين من الجيش السوري الحرّ.
أخيراً، وربما ليس آخراً، سُجّلت آخر عملية فرار، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، في الجمعة الثانية من شهر تشرين الأول 2012؛ إذ تمكّن ثلاثة سُجناء، والعدد على ذمّة إدارة السجن، من الفرار بطريقة لم تُعلن بعد. السجناء الثلاثة قياديون في تنظيم فتح الإسلام هم: السوري عمر عثمان (مواليد 1980) والجزائري فيصل عقلة (مواليد 1981) والفلسطيني محمود فلاح، علماً بأنّ جثّث اثنين من هؤلاء ظهرت على مواقع اليوتيوب مذيّلة بعبارة تُفيد بأنهما «قضيا شهيدين في سوريا». وقد بدأت القصة بعدما تعرّف نزلاء السجن إلى صورهما وصاروا يتبادلون المقطع المصوّر عبر هواتفهم الخلوية. وفي هذا السياق، تكشف «الأخبار» كيفية حصول عملية الفرار الأخيرة، بحسب ما بيّنت التحقيقات. تعود القصة إلى نحو شهرٍ قبيل اكتشاف عملية الفرار؛ إذ تمكن الحرّاس من توقيف شاب فلسطيني بحوزته هوية مزوّرة إضافة إلى هويته، عندما كان يقوم بزيارة أحد السجناء. كان المذكور يحمل هويتين، شبه مطبقتين على بعضهما، قدّمهما إلى الحارس الذي يُسجّل الأسماء في الخارج على أنهما هوية واحدة. فشاءت الصدف أن سقطت واحدة عن الأخرى. ارتبك الشاب، فسأله العسكري عن صاحبها مستفسراً. حاول الأخير إخفاء ارتباكه بالقول إنه قادم في الطريق. طلب العسكري من الشاب الانتظار جانباً ريثما يصل المذكور. مرّ وقتٌ طويل لكن صاحب الهوية المنتظر لم يظهر. في تلك الأثناء، جرى التدقيق في صورة صاحب الهوية ليتبيّن أنها تعود لأحد السجناء، فجرى توقيف الشاب الزائر، وتبيّن أنه كان قد أصيب في وقتٍ سابق إثر أحد الاشتباكات بشكل أدّى إلى إحداث عاهة مستديمة في رقبته بارزة للعيان. وكان من المخطط أن يدخل الشاب وحيداً، ثم عند خروجه يكون برفقته السجين صاحب الهوية الثانية. يخرج مع الخارجين فتكون هويته بانتظاره. يومها أودع الموقوف السجن لتبدأ التحقيقات. وللتذكير، فإنّ عملية التوقيف المشار إليها كانت قد جرت قبل اكتشاف فرار السجناء الثلاثة، لكن التحقيقات حينها لم تكن قد اكتشفت أي علاقة للشاب الموقوف بها، علماً بأن ترجيحات الأمنيين عادت لتشير إلى احتمال اعتماد السجناء هذه الوسيلة للفرار. هكذا كان السجناء الذين ينوون الفرار يعتمدون هذه الطريقة، بعد ضمان خروجهم من زنانزينهم، بالتأكيد مع تواطؤعسكريين، يختلطون بعدها مع الزوّار ليغادروا، وكأنّ شيئاً لم يكن.
وفي الأيام السابقة، أُعلن إحباط قيادة سرية السجون لمحاولة فرار جماعية من سجن رومية، حيث كان ينوي ما يقارب عشرين موقوفاً من فتح الإسلام تنفيذها، بحسب ما تناقلت وسائل الإعلام. وكشفت المعلومات المتداولة أن عدداً من هؤلاء السجناء عمدوا في أوقات سابقة إلى نشر عدد من القضبان الحديدية في مكتبة السجن، وكانوا يحاولون استحداث ثغرة في المشغل المقفل التابع للسجن. وأعقب ذلك، فرار أحد سجناء سجن حلبا، وهو صومالي الجنسية يدعى أبو بكر آدم، كان قد نقل من سجنه إلى مركز اليوسف الاستشفائي نتيجة إصابته بعوارض ضيق تنفس وأوجاع في الصدر. قفز السجين الفارّ من الطبقة الأولى من المبنى قبل أن يتوارى عن الأنظار، إلا أن الأجهزة الأمنية تمكنت من إعادة توقيفه. السجين الصومالي محكومٌ بتهمة الدخول خلسة إلى لبنان، إلا أن معظم من لم يُعثر لهم على أثر كانوا جهاديين.