يوماً بعد آخر، تتفاقم أزمة مستشفى بيروت الحكومي الذي تراجعت خدماته وإيراداته إلى حد بات أشبه بمستوصفٍ في مبنى ضخم. وإذا كانت الأزمة المالية قد أظهرت حجم الفساد والفوضى، إلا أن الإدارة بدل أن تستدرك هذا الواقع بخطط تعيد المستشفى إلى سيرته الأولى كأول صرحٍ استشفائي حكومي، ارتأت أن تختصر الطريق بارتكاب «مجزرة» تشحيل الموظفين ورواتبهم.مع إصدار تعرفات جديدة للمستشفيات الحكومية والقرار بعدم استيفاء أي فروقات إضافية من المرضى، طفت أزمة مستشفى بيروت الحكومي نتيجة انحسار التدفقات النقدية بالتزامن مع تقليص المساعدات من بعض الجهات الدولية، ولا سيما الصليب الأحمر الدولي. عوّل الطرفان، إدارة وموظفين، على «النوايا الحسنة» لإعادة التوازن إلى المستشفى عبر تكثيف دورة العمل لتأمين تدفقات مالية إضافية. غير أن ذلك لم يكن كافياً لحلّ أزمةٍ تستشرس أسبابها يوماً بعد آخر، وسرعان ما انقلب حسن النوايا إلى «معركة» مفتوحة بين الطرفين. ففيما دعت لجنة مستخدمي ومتعاقدي وأجراء مستشفى بيروت الحكومي اللجنة الإدارية التي تقوم بمهمات الإدارة إلى زيادة الإيرادات عبر تعزيز القدرة الاستيعابية للمستشفى بعدما تراجعت كثيراً خلال جائحة كورونا، ارتأت اللجنة أن تختار الطريق «الأسهل» بين خيارين اثنين، إما «تشحيل» الموظفين أو خفض رواتبهم. وتستند في ذلك إلى «انتفاء التوازن بين عدد الموظفين البالغ نحو 900، وبين الموازنة التي لم تعد تكفي لسدّ الرواتب»، وفقاً لمصادر اللجنة. مع وصول الأمر إلى طريقٍ مسدود، حاول البعض في وزارة الصحة تقريب وجهات النظر، عبر طرحٍ يقضي بالاستفادة من فائض الموظفين في أماكن شاغرة في مستشفياتٍ أخرى، وهو ما لم توافق عليه لجنة المستخدمين والمتعاقدين والأجراء، فانتهى الجدل بإعلان الموظفين الإضراب المفتوح في «أقسام المستشفى كافة، ما عدا قسمي العلاج النهاري وغسيل الكلى».
يعيد الاشتباك المستشفى «السائب» منذ سنوات إلى الضوء. وإذا كانت الأزمة المالية قد لعبت دوراً في الخراب السائد، حيث كان الغياب في صفوف الموظفين أكبر من الحضور، إلا أن هذا ليس السبب الوحيد، فثمة فوضى وفساد متجذران في الصرح الحكومي الأكبر إلى درجة أن الانضباط «بات يحتاج إلى انقلاب»، وفقاً لمصادر متابعة. وهذا الوضع يتحمل مسؤوليته الطرفان. على طرف الموظفين، «هناك مشكلات كبيرة بين رؤساء المصالح وصلت إلى انقطاع التواصل بينهم، فبات لكل رئيس مصلحة إمبراطورية وباتت الأقسام جزراً مفصولة»، وتمدّدت الفوضى حتى وصل الأمر إلى حدّ بصم بعض الموظفين في آلات الدوام في المستشفى والعمل في مؤسسات أخرى! أما على طرف الإدارة، «فالمدير الذي يجب أن يكون ضابط إيقاع لضبط هذه المخالفات غير موجود». وعندما شكلت اللجنة الإدارية للقيام بمهمات الإدارة الأصيلة، لم تضع أي خطة إنقاذية رغم محاولات تطعيمها بأعضاء اختصاصيين في الإدارات، فلم يلمس أحد في المستشفى تغييراً في النهج المستمرّ في تحميل الموظفين عبء النفقات.
وإذا كان ثمة جانب معقول في شكوى الإدارة من تخمة الموظفين، إلا أن من يتحمل مسؤولية ذلك هي الإدارات المتعاقبة نفسها التي أفسحت المجال للحشو، «والتوظيف كجوائز ترضية للمقربين من المدير أو من الأطراف السياسية». لذلك، كان الوصول إلى الوضع الحالي متوقعاً. غير أن هذا التبرير لا يغطي المشكلة الأساسية التي تتعلق بسوء الإدارة وسوء توزيع الموظفين والممرضين والفوضى السائدة في المستشفى.

بيروت الحكومي بلا خدمات
أزمة المستشفى ليست في أعداد الموظفين، وإن كانت هذه الأعداد ضاغطة، بل إنما في انعدام الخطط التي تعيد المستشفى إلى سابق عهده وتعيد إليه قدرته الاستيعابية التي تراجعت من 300 سرير إلى ما بين 70 و80 سريراً، وفي أحسن الأحوال إلى 100. تسببت جائحة كورونا والأزمة المالية في تقليص الأسرّة في عدد من الأقسام وإقفال أقسام كاملة، إلا أن ذلك لا ينفي وجود أسبابٍ أخرى، منها الاستهتار واللامبالاة في تفعيل الخدمات الطبية. والحديث هنا عن تعطّل وتعطيل أجهزة ضخمة «لا مثيل لها في مستشفيات لبنان الحكومية وحتى في بعض المستشفيات الخاصة»، وهي لا تحتاج إلا إلى كهرباء وصيانة. ورغم سقف سطح المبنى بألواح الطاقة الشمسية، لم يستفد المستشفى من هذه النعمة التي فاقت كلفتها الـ170 ألف دولار. وبسبب غياب عقود الصيانة، خرج كثير من المعدات والتجهيزات من الخدمة. والأمثلة تطول عن: حمامات مرضى وموظفين بلا صيانة، وعن 11 مصعداً يعمل منها 3 فقط ما يؤثر على خدمة نقل المرضى. أضف إلى ذلك، وهو الأهم، إلغاء بعض عقود الصيانة للمستلزمات الطبية، ما أدى إلى توقف خدمات طبية مهمة في المستشفى. بالأرقام، تشير المصادر إلى «توقف قسم التنظير بشكلٍ كامل، وشلل قسم علاج الأشعة radiotherapy بسبب تعطّل ماكينة العلاج (يقدّر المعنيون كلفة صيانتها بـ 80 ألف دولار يمكن استرجاعها في غضون أيام في حال تم إصلاحها)، كما تعطّل جهاز التصوير الطبقي، إضافة إلى فقدان قسم العمليات الجراحية قدرته العملية بنسبة 90%، إذ يقتصر العمل حالياً على أنواع محددة من العمليات بحدود 3 إلى 5 عمليات أسبوعياً، مع الحاجة أحياناً إلى استعارة أطباء من خارج المستشفى لإتمام العمل الجراحي». كما تتحدث المصادر عن «عمل المختبر بربع قدرته، إذ إن معظم الفحوصات لم تعد تُجرى فيه ويُرسل المرضى إلى مختبرات خارجية لإجراء فحوصاتهم». والمفارقة أن المستشفى يملك مالاً «للدفع لموردين ووكلاء محددين يقبضون بانتظام، فيما يُمنع هذا المال عن وكلاء آخرين وعن الموظفين، وهذا ما يطرح السؤال عن الأولويات».
لم يحدث في أي قطاع أن كانت صلات القربى بهذا الوضوح فكثيرون من العاملين إما أزواج أو إخوة أو أبناء أو من عائلة واحدة


تتمدّد الفوضى وسوء التدبير إلى أقسام الموظفين والممرضين، حيث تبرز أزمة سوء توزيع العاملين والممرضين والممرضات الموزعين اليوم بطريقة غير علمية وعشوائية، خلافاً للمراسيم والقوانين. وتتحدث المصادر عن فائضٍ في بعض الأقسام ونقص فادح في أقسامٍ أخرى «فمثلاً، في قسم العقور، هناك ممرضة خاصة للعقور علماً أن نسب الإصابات مخيفة، كما أن هناك مشرفة واحدة خاصة مجازة في قسم العناية التلطيفية، وأخرى خاصة في الحوادث. في المقابل، تعج العيادات الخاصة والخارجية بالممرضين». وعلاوة على ذلك، ثمة ممرضون وعاملون، ومنهم رؤساء مصالح، يبصمون في المستشفى و«يخدمون» في مؤسسات أخرى!

12 عاملاً لكل سرير
بحسب المادة السادسة من المرسوم 7515، يفترض أن «لا يزيد عدد الممرضين لكل سرير عن 1.3 وعدد العاملين لكل سرير عن 2.8». وهذا يفترض، استناداً إلى عدد الموظفين البالغ 900، أن يضم المستشفى 321 سريراً. أما واقعاً، فما يحدث هو العكس تماماً. فإذا كانت القدرة الاستيعابية اليوم هي بحدود الـ70 سريراً، يصبح عدد العاملين 12.8 لكل سرير. أضف إلى ذلك أنه لم يحدث في أي قطاع كما في مستشفى بيروت الحكومي أن كانت «شبكة صلات القربى بهذا الوضوح، فكثيرون من العاملين هم إما أزواج أو إخوة أو أبناء أو حتى من عائلة واحدة (عائلة العرب مثلاً)».
المشكلة اليوم في المستشفى ليست في عدد العاملين بقدر ما هي «في سوء الإدارة والتخطيط والتدخلات الحزبية والسياسية والتوظيف العشوائي من دون مباراة (آخر مباراة أجريت عبر مجلس الخدمة المدنية كانت عام 2008)». والسؤال هنا: هل يكون الحلّ بارتكاب مجزرة في حق الموظفين الذين تسأل الإدارة عن أسباب تضخم أعدادهم؟ أم بخطة تنهض بالمستشفى كأهم صرح استشفائي حكومي؟
ومن يُسأل اليوم هو وزير الصحة العامة، فراس الأبيض، الذي يفصل جدار بين وزارته وبين المستشفى، وفي وقتٍ تُصرف الملايين على تدريبات وخطط طوارئ لمواجهة حربٍ لم تقع بعد، يتحول مستشفى بيروت الحكومي إلى مجرد مستوصف.