أخيراً، بدأ السؤال عن أسباب توسّع حزب القوات اللبنانية وتضاعف شعبية رئيسه سمير جعجع يأخذ مدى جدياً في أوساط التيار الوطني الحر، بعيداً عن الانفعالات التي تتبع الاستحقاقات عادة، وتتلاشى تداعياتها قبل أن ينتج منها أي شيء جديّ. وعاد المعنيّون بمستقبل التيار للانتباه إلى أن خصوم التيار كثرٌ فعلاً، لكن من ينافسه على التمثيل السياسي في المقاعد النيابية وغيره اليوم هي القوات اللبنانية حصراً.ففي وقت كان فيه التيار يقاتل سياسياً على كل الجبهات: جبهة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وكل ما يتفرع منه من مؤسسات، وجبهة رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي وكل ما يملكه من نفوذ في إدارات الدولة، وجبهة رئيس المجلس النيابي نبيه بري وحلفائه على مستوى البيوتات السياسية، وجبهة 17 تشرين بثواره وجمعياته وإعلامه... كانت القوات تركز نيرانها في المقابل على التيار حصراً، ولا تسمح بأن يشغلها عنه أي شيء آخر. في جزين، مثلاً، وصل التيار إلى الانتخابات النيابية الأخيرة مرهقاً وعاجزاً عن عقد التحالفات بعدما دخل صراعاً مع كل من الحريرية والثنائي والبيوتات السياسية والثوار المفترضين، فيما حصدت القوات التي كانت تتفرج مقعدين بعدما حاصر التيار نفسه بنفسه.
في مرحلة سابقة، كان خصوم التيار يحظون بحماية أو دعم الرئيس سعد الحريري (في زمن مسيحيّي 14 آذار) والرئيس نبيه بري (البيوتات السياسية)، أما اليوم فباتت القوات هي المنافس الحقيقي الوحيد لكل من التيار وخصومه السابقين، بل بات تفاهمه معهم (الكتائب و17 تشرين ضمناً) ضرورياً لوقف القوات. تجدر الإشارة إلى أنه فور إعلان نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، قال جعجع أمام دبلوماسي عربي إنه «أنهى التيار» ويمكنه الانتقال من «همّ التيار» إلى «همّ الحزب»، معمّماً على مسؤولي حزبه بضرورة التصرف على كل المستويات بوصفهم الممثلين الوحيدين للمسيحيين باعتبار أن التيار انتهى تماماً. وهذا ما يفسّر رفض جعجع الصارم المشاركة في أيّ حوار أو جلسة أو لقاء يشارك فيه باسيل، باعتبار أن ذلك يمثّل اعترافاً ضمنياً بتمثيل باسيل المسيحي أو بندّيته له، سواء على طاولة الفاتيكان أو بكركي أو الرئيس بري.
مع ذلك، فإن السؤال العوني عن أسباب تقدم القوات يجب أن يسلك اليوم طرقاً علمية هادئة بكل ما يتطلبه ذلك من دراسات وإحصاءات للوصول إلى نتائج إيجابية، بدل تبسيط الأمور كالقول، مثلاً، إنها لعنة السلطة عند المسيحيين التي لم يخرج أحد منها بالقوة نفسها التي دخل اليها فيها، أو اتهام المال السياسي لأن إدارة المال الانتخابي أهم بكثير من المال نفسه، أو إلقاء اللوم على الإعلام لأن تجارب كثيرة تؤكد أن مواقع التواصل توفر إعلاماً بديلاً لو كانت هناك نية للمواجهة الإعلامية، أو ما يتردد أخيراً عن إحالة أسباب تقدّم القوات إلى «الهجوم الشيعي» على جعجع، من منطلق أن المسيحيين يلتفّون حول أي سياسي بمجرد أن يهاجمه جمهور أو قيادات طائفة أخرى, فلو كان ذلك صحيحاً، لكان التيار ورئيسه الأكثر شعبية مسيحياً من دون منازع بعد كل التعبئة ضدهما في البيئتين السنّية والدرزية.
وعليه، يمكن أن تكون كل هذه الأسباب مجتمعة، أو ربما غيرها، ما أدى إلى التقدم القواتي. لكن ما يحدد ذلك هو دراسة علمية هادئة تقارب هذا الملف بمسؤولية. مع الأخذ في الحسبان أن الشعبية تعلو وتهبط، ولا يفترض بالعمل السياسي أن يكون على غرار «ما يطلبه المستمعون» لأن القائد السياسي هو من يقود الرأي العام لا العكس. وهو ما فعله سمير جعجع نفسه حين التزم بتموضعه الاستراتيجي وتحالفاته السياسية، حتى حين لم تكن تؤيده الأكثرية الشعبية المسيحية ولا تؤمن له حضوراً نيابياً أو وزارياً وازناً أو رئاسة جمهورية؛ يومها، لم يعد جعجع النظر بكل خياراته لإرضاء الناخب، بل ثبّت تموضعه وراهن على الوقت. مع التأكيد أن المنطق المسيحي العام السائد الذي يحمّل «الشيعة» المسؤولية عن كل صغيرة وكبيرة يعزّز موقع جعجع وصدقيّته بتأكيد العونيين قبل القوات أنه كان على حق منذ البداية، ويضعف موقف التيار مهما كان ما يقوله اليوم. والأمر مشابه تماماً لما يحصل في ملف النزوح السوري، حيث يربح التيار ويخسر جعجع مهما كان ما يقوله الأخير. ففي التعبئة المسيحية العامة ضد النازحين السوريين، يقول الرأي العام المسيحي: إذاً، كان العونيون على حق. وفي التعبئة المسيحية العامة ضد حزب الله، يقول الرأي العام المسيحي: إذاً، كانت القوات على حق. مع العلم أن تقييم نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة الذي أجرته ماكينة التيار بعد الانتخابات خلص إلى أن العدد الأكبر من ناخبي التيار عام 2018 الذين لم يقترعوا للتيار عام 2022 صوّتوا للمرشح جاد غصن في المتن، والنائب مارك ضو في عاليه، والمرشَحَين على لائحة نعمة افرام في جبيل. واللافت أن أحداً من المعنيين، وخصوصاً النواب، لم يدقّق في النتائج ويتصل مثلاً بمن أحجموا عن الاقتراع للتيار لسؤالهم عن السبب، رغم سهولة ذلك.
وعليه، فإن مزاحمة جعجع لا تكون عبر منافسته في الخطاب السياسي، وإنما عبر تحديد علمي لأسباب تقدمه من أجل إيجاد وسائل لوقفه، والتركيز في موازاة ذلك على أربع نقاط ضعف قواتية رئيسية يفترض بالعونيين الانتقال بواسطتها من الدفاع إلى الهجوم كما فعلت القوات في ما يخصّ نقطة ضعف التيار الرئيسية المتمثلة بأدائه في السلطة:
أولاً، وضع الرأي العام المسيحي في شكل واضح وجازم وحاسم أمام خيارين لا ثالث لهما، ومن دون لفّ و«مُستحى» ودوران:
- خيار التصادم والتعبئة والتحشيد والتحريض الذي يرفع جعجع لواءه، ويريد للمسيحيين بموجبه أن يكونوا «عشرين ألفاً»، وأن «يقسم الجيش»... وغيرها من وصفات الانتحار.
- خيار التفاهمات التي يرفع التيار لواءها، وقد ترجم ذلك في نصوص مكتوبة مع كل من القوات والتنظيم الناصري والحزب الشيوعي وحزب الله، ونصوص غير مكتوبة مع سعد الحريري، وبقي بعد كل الحملات عليه ينصّ الأوراق ويجوب على التغييريين والكتائب وأمل والاشتراكي لإقناعهم بالاتفاق على مواصفات للرئيس تارة، وبعض القوانين التشريعية طوراً.
وبدل إضاعة الوقت في مزايدات لا تنفع، يفترض سؤال الرأي العام المسيحي، يومياً، وعلى جميع المستويات في الكنيسة والقرية والبلدة والمدرسة والجامعة والنقابة والمدينة، أيّ نموذج أو خيار يريد: التصادم الذي يوصل إلى حرب أهلية أو الحوار والتفاهمات التي تؤمّن الاستقرار؟ الازدهار أو التقهقر؟ نموذج البترون وإهدن اللذين تقصدهما العائلات الطرابلسية أولاً وكل لبنان ثانياً أم نموذج بشري متصادم مع جواره من زغرتا إلى الضنية إلى بعلبك التي لا يوجد فيها صاحب فندق واحد فخور باستثماره؟ خيار جعجع الذي يهلّل للحصار الاقتصادي على البلد حتى لو دفع أبناء بشري ثمن مقاطعة الخليج للمنتوجات الزراعية، أو خيار باسيل الذي استحدث في الخارجية، حين كان وزيراً، عشرات الملحقين الاقتصاديين في السفارات لتوسيع آفاق الصادرات اللبنانية؟ الخيار الذي يسعى لتأمين فرص العمل، سواء عبر النفط أو غيره أو خيار من يفاخر بنيّته إعادتهم بالتوابيت؟ الخيار الذي ينسجم مع التفاهمات الإقليمية والدولية أو الخيار الذي يعتقد أن بوسعه وضع العصيّ في دواليب التفاهمات؟ الخيار الذي يقاتل من أجل شراكة حقيقية كاملة ناجزة حتى لو أدى ذلك إلى توتر كبير في علاقته مع أوثق حلفائه، أو الخيار الذي لا يهمّه التمثيل ولا الشراكة ولا المناصفة وإنما إرضاء مراكز الدراسات التي قال جعجع بفخر شديد إنها تعتبر «المسيحيين بفضله رأس حربة في مواجهة الشيعة»؟
وثمة ورقة في غاية الأهمية، وهي الأساس في التموضع الاستراتيجي لكل من القوات والتيار، تعيد القوات إلى نقطة الصفر التي انطلق منها التيار في أواخر الثمانينيات، لكن التيار يتعامل معها بخجل ولا يعيرها الاهتمام اللازم رغم أن النقاش السياسي يجب أن يبدأ وينتهي عندها، تاركاً للرأي العام أن يختار ما يريد. مع ضرورة توضيح التيار أن خياره الاستراتيجي هو «التفاهمات» لا التفاهم مع حزب الله حصراً، فيما خيار القوات الاستراتيجي هو الصدام، وعليه فإن من يختار بينهما لا يختار «التفاهم مع حزب الله أو عدمه»، وإنما منطق التفاهم عموماً أو عدمه.
ثانياً، فضح كذب القوات لسنوات في ما يخص الحريات وحق الشعوب في تقرير المصير، إذ يدعو جعجع ونواب كتلته ومسؤولو حزبه شعباً محتلاً يقتل كل يوم في الضفة (قبل الحرب في غزة وخلالها) ويؤسر ويهان إلى القبول بالعيش في السجن الكبير من دون مقاومة أو أية ردة فعل، في تناقض كبير مع كل ما سوّقه جعجع عن نفسه في لبنان والعالم كأسير سياسي سابق مناصر للحريات في هذا العالم. وهو ما يمنح العونيين فرصة استثنائية لتدمير كل الصورة الجديدة التي رسمها جعجع لنفسه، سواء خلال وجوده في السجن أو بعد خروجه منه. إذ كان يفترض أن تربط مواقف مسؤوليه بصور أشلاء الأطفال في المستشفيات وشرعة حقوق الإنسان التي تستذكر القوات اللبنانية شارل مالك بوصفه أحد كاتبيها في المواسم الانتخابية، ثم تتناساها حين يبدأ حليف حلفائها الإقليميين مسلسلات القتل، وتتحول «الكرامة والحرية والمساواة» التي ينصّ عليها البند الأول في «الإعلان» إلى «شعارات ممانعة خشبية تافهة» كما يقول مسؤول «جهاز التواصل» في القوات شارل جبور. ومن يراقب اليوم القواتيين على مواقع التواصل الاجتماعي، يلاحظ تسخيفهم كل من يتحدث عن الكرامة الوطنية أو السيادة أو الاستقلال، حيث المطلوب تبعية عمياء وجوفاء للغرب دون «ولكن». ولعل العونيين لا يعلمون هنا أن منظمات كبرى تواجه مشاكل جدية مع ناشطيها في لبنان - كما حصل في الكثير من الجامعات الأوروبية والأميركية - لأنهم صدّقوا الأكاذيب الغربية في ما يخص الحرية وحقوق الإنسان. وعليه، يمكن التيار أن لا يستقطب في هذه اللحظة، لكن بوسعه أن يمنع القوات من الاستقطاب أقلّه في أوساط من يؤمنون فعلاً بالحرية والحريات ويرفضون القتل وانتهاك الكرامات.
مزاحمة جعجع ليست بمنافسته في الخطاب السياسي بل في تحديد علمي لأسباب تقدّمه من أجل إيجاد وسائل لوقفه


ثالثاً، لعب لعبة القوات مع التيار لجهة تأجيج الخلافات التي تطرأ بينه وبين الأفرقاء الآخرين في سياق سعيها الدائم لعزل التيار. ففي ظل التباعد السياسي الكبير بين القوات والحزب الاشتراكي، والذي بلغ حدّ تطاول جبور بشكل فوقي مقزّز على النائب السابق وليد جنبلاط، هل استنفر التيار ماكينة ما لتوسيع الهوّة بين الحليفين المفترضين كما كانت القوات لتفعل لو قلبت الأدوار؟ طبعاً لا. ومشكلة الجمهور العوني هنا أنه لا يعتبر نفسه معنياً بالهجوم أو «الشيطنة» على هذا السياسي أو ذاك الإعلامي، إلا حين يرتبط الأمر بهجوم مباشر على التيار، فيظهرون بمظهر المدافعين والمبررين لا شيء آخر. مع العلم أن تطوير التفاهم السياسي بين التيار والاشتراكي إلى تحالف انتخابي كفيل بقلب الكثير من الأوزان السياسية. في المقابل، تستنفر القوات ماكينة هائلة لتضخيم أيّ تباين بين التيار وحركة أمل، فيما يجلس التيار متفرجاً على الخلاف بين أمل والقوات، أو يسخّفه ويضعه في خانة التمثيل وتبادل الأدوار بدل الاستثمار فيه وتوسيعه. وبالعودة إلى غزة، لولا النائب السابق خالد ضاهر لما اقتربت القوات من الحاصل الانتخابي الذي لم تصل إليه في عكار، ولولا طرابلس لما حصلت على النائب الثامن عشر في كتلتها، ولولا الناخب السني في زحلة لما ضمنت المقعد الثاني وغيره الكثير ممّا يمكن حرمان القوات منه في حال إتقان التيار التصويب على مواقف القوات اليومية، وإعادة تظهير تموضعه السياسي بشكل واضح، مستثمراً أكثر فأكثر في علاقته مع الجماعة الإسلامية التي جمعته بها علاقة جيدة حين كانت العلاقة معها لزوم ما لا يلزم. وهو ما يقود إلى القول إن التيار يندفع نحو التفاهمات حين تكون مضرّة به، وينفر منها حين تكون مفيدة له؛ وهو ما يحتاج إلى علاج مركزي جدي. مع التأكيد هنا أنها لحظة لا تتكرر لجهة إمكانية إقفال الأبواب السنّية في وجه جعجع وجعل حركته هناك (الضرورية انتخابياً بالنسبة إليه) صعبة جداً. لكنّ هذا يتطلب من التيار قراراً معجّلاً مكرّراً وخريطة طريق واتصالات سياسية واقتناعاً بأن محاصرة الخصم أهمّ من أي شيء آخر، كما تؤكد تجربة التيار نفسها.
رابعاً، ثمة سؤال يومي يفترض بالتيار أن ينتقل بمجرد طرحه من الدفاع إلى الهجوم، يرتبط بما حققته القوات للناخبين على جميع المستويات نتيجة مشاركتها في السلطة أو معارضتها منذ عام 2005، مع إعادة تحديد للمفاهيم بعيداً عن الشعبوية لجهة أن المعارضة للمعارضة لا تفيد الرأي العام بشيء، أما المعارضة الهادفة إلى التصحيح أو التغيير، فيمكن أن تفيد. وبناءً على ذلك، يفترض بالتيار الخروج من الزاوية التي تحشره فيها القوات بوسائلها المختلفة منذ عشر سنوات بشأن أدائه في هذه الوزارة أو تلك للمقارنة على جميع المستويات الإنمائية والتشريعية بين نوابه ونواب القوات في جبيل وكسروان والمتن والبترون وبشري والكورة؟ فرغم كل الملاحظات السلبية التي يمكن تسجيلها على أداء النواب العونيين، لا مجال للمقارنة أبداً بنواب القوات الذين لم يفعلوا أيّ شيء إنمائي أو تشريعي يذكر غير التعقيب السلبي على العونيين.
أخيراً، إعادة الاعتبار للخصومة مع رئيس حزب القوات اللبنانية سواء على المستوى السياسي أو البلدي أو النقابي أو الطلابي هي الأساس. فمن لا يعتبر جعجع خصمه الحقيقي وينشغل عنه ٣٦٤ يوماً في السنة بخصومات ثانية وثالثة ورابعة لن ينجح في مزاحمته. مع جعجع، لا بدّ من المعاملة بالمثل: لا بدّ من التركيز المكثّف عليه، تماماً كما فعل هو، من دون أيّ معارك جانبية لإعادته إلى حجمه الطبيعي، ثمّ الالتفات بعد ذلك إلى كل الجبهات الأخرى.