مقالات مرتبطة
لم يخطئ من اعتبر أن البحر المتوسط قد أضحى مقبرة لـ«معذّبي الأرض»
لكن جان كريستوف روفان، الطبيب الذي عمل في الحقل الإنساني، والدبلوماسي السابق والكاتب، هو الذي عكس بوضوح أكبر، في مؤلّفه الصادر فير عام 1992 بعنوان «الإمبراطورية والبرابرة الجدد»، حقيقة تحكّم هاجس ديموغرافيا الملوّنين وما تمثّله من تهديد لواحة الرفاه الغربية، بمنظور نخب هذه الواحة للعالم وشؤونه. يقسم روفان العالم إلى 3 مناطق: الإمبراطورية، أي الواحة الغربية؛ والمنطقة العازلة، وهي بالنسبة إليه كفرنسي - أوروبي البلدان المستقرّة نسبياً في بداية التسعينيات، والقريبة جغرافياً من القارة الأوروبية كالمغرب العربي وليبيا ومصر؛ ومناطق الفقر المدقع ومصدر التهديد الديمغرافي الرئيس برأيه، أي أفريقيا جنوب الصحراء. يحاذر روفان تقديم توصيات، ويحرص على الظهور بمظهر من يوصّف «موضوعياً» التوجّهات السائدة آنذاك، وهي اتّباع أوروبا تدريجياً سياسات تحوّلها إلى نوع من القلعة الحصينة القادرة على صدّ موجات الهجرة، وتثبيت بلدان المنطقة العازلة في «وظيفتها» كحزام أمني في مقابل هذه الموجات، والعمل مع السلطات في بلدان الفقر المدقع، أيّاً كانت، لمنع الهجرات.
من يراجع اليوم السياسات الأوروبية حيال بلدان كتونس والجزائر والمغرب وليبيا، والاتفاقيات الخاصة بمكافحة الهجرة، وإقامة المخيمات والمعتقلات الخاصة بالمهاجرين، في مقابل مكاسب وحوافز اقتصادية ومالية، فسيتأكّد من رسوخ مثل هذا المنظور في أذهان النخب الحاكمة الأوروبية. لكنّ الحرب العدوانية التي شُنّت على ليبيا في عام 2011، وما أدّت إليه من تدمير لدولتها، والأزمات البنيوية التي تعصف بتونس، والتطورات المحتملة في بلدان عربية أخرى، قد أضعفت من قدراتها جميعاً على أداء مثل هذا الدور، وأصبح بعضها مصدراً لهجرة متزايدة نحو أوروبا. وبطبيعة الحال، فإن الحرب الكونية التي استهدفت سوريا قد حوّلتها أيضاً منذ سنوات إلى مصدر للهجرة. عقود من سياسات السيطرة والنهب والعدوان الغربية قد حالت دون نجاح عمليات البناء الوطني في العديد من البلدان المستعمرة سابقاً، وأدّت إلى اضمحلال الدول كلياً أو جزئياً في بعضها.
قسم وازن من شعوب هذه البلدان أضحى ضمن «كوكب الغرقى» وفقاً لتعبير الكاتب الفرنسي سيرج لاتوش، عند حديثه عن كتل شعبية وازنة في جنوب العالم حرمتها الرأسمالية العالمية من أبسط مقوّمات البقاء. والأكيد أن موجات الهجرة الحالية نحو الحديقة الأوروبية ليست سوى أول الغيث!