لماذا دوغين؟
ليس لألكسندر دوغين، كما أسلفنا، أيّ منصب رسمي في روسيا. لكن المفكّر المتخصّص في الشؤون الجيوسياسية، إضافة إلى مساهماته في مجال الفلسفة، تربطه صلات وثيقة بالرئيس الروسي، وبعددٍ من معاونيه السياسيين والعسكريين والأمنيين. الرجل الذي وصف بـ«بابا الأوراسية» منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، عند وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، كان داعيةً لتحالف بلاده مع الصين والهند والعالم الإسلامي في مواجهة الغرب الساعي، وفقاً له، إلى إضعافها وتفكيكها، والانفراد بالموقع المهيمن على صعيد عالمي. لم تكن آراء دوغين تمثّل، في تلك الفترة، التيار الرئيسي في القيادة الروسية. فقد اعترف بوتين بنفسه، في الخطاب الذي ألقاه في 22 شباط الماضي، أي قبل يومين من التدخُّل العسكري في أوكرانيا، بأنه طلب من نظيره الأميركي آنذاك، بيل كلينتون، خلال زيارته لموسكو في بداية عام 2000، أن توافق واشنطن على انضمام موسكو إلى «الناتو»، من دون أن يلقى منه أيّ استجابة. وفي السنة التي تلت، تحدّث بوتين، في خطاب ألقاه أمام البرلمان الألماني، عن «المصير الأوروبي» لروسيا، ولم يجد آذاناً صاغية بين المسؤولين الألمان والأوروبيين. راهن الرئيس الروسي، ومعه قطاع معتَبر من النخب الروسية، على إمكانية التوصّل إلى تفاهمات عميقة مع القوى الغربية تتيح التأسيس لشراكة بينهما على قاعدة المصالح المشتركة والتعاون في جميع الميادين، لكنه أخفق في ذلك. ومع استمرار توسيع حلف «الناتو» شرقاً، وخاصة بعد عام 2004، أيقن بوتين أن استراتيجية الاحتواء لا تزال معتمدة حيال بلاده، ومعه بعض أبرز معاونيه المتحمّسين سابقاً لعلاقة اندماج مع الغرب، مثل سيرجي كاراغانوف، والذين أصبحوا من أنصار القطيعة معه، كما شرح الأخير في مقالته الشهيرة «عقيدة بوتين».
أثبتت التطوّرات صحّة وجهة نظر دوغين حيال حقيقة النيّات الغربية، وعزّزت من مكانته لدى القيادة الروسية
أثبتت التطوّرات صحّة وجهة نظر دوغين حيال حقيقة النيات الغربية، وعزّزت - بلا ريب - من مكانته لدى القيادة الروسية. غير أن استهدافه لم يرتبط، على الأغلب، بدوره الفكري فقط. فشبكة العلاقات الواسعة التي نسجها مع عدد كبير من قيادات ومسؤولي القوى غير الغربية، وتحديداً في تركيا وإيران والصين والهند، مكّنته من أن يساهم في تقريب وجهات النظر وتوثيق العلاقات بينهم وبين القيادة الروسية، أو أن يشارك، كما فعل مع تركيا، في نزع فتيل التوتّر بينها وبين روسيا. فهو أسرَّ لـ»الأخبار»، في مقابلة أجريتها معه في 24 أيلول 2019، بأنه نقل رسالة من رئيسها إردوغان إلى نظيره الروسي، بعد إسقاط الجيش التركي طائرة روسية في سوريا في أواخر عام 2015، وقرار الثاني قطع أيّ تواصل مع أنقرة، مفادها بأن من اتّخذ هذا القرار ليس القيادة التركية، بل مجموعة مرتبطة بـ»الحلف الأطلسي» داخل الجيش التركي. وتتّهم أوساط تركية معارضة لإردوغان، وكذلك أوساط أميركية وغربية، ألكسندر دوغين بأنه نقل تحذيراً في حزيران 2016 من القيادة الروسية لإردوغان حول الانقلاب الذي كان يدبَّر ضدّه، ما ساهم في إفشاله في شهر تموز الذي تلى. الثقة الوطيدة التي تجمعه بالكرملين وشبكة علاقاته الواسعة أهّلته للقيام بدور ينسجم مع اقتناعاته، يساعد في تذليل العقبات أمام إنشاء تحالف أوراسي مناهض للسيطرة الغربية، ما قد يفسّر أحد الدوافع الرئيسية لاستهدافه. لكن موقع هذه العملية وتوقيتها يحملان أيضاً معاني مهمّة.
سقوط الخطوط الحمر
محاولة اغتيال ألكسندر دوغين، في ضواحي موسكو، وفي سياق احتدام الحرب في أوكرانيا، هي رسالة مزدوجة موجّهة للقيادة الروسية من جهة، ولشعبها من جهة أخرى. الهدف هو إفهام القيادة الروسية بأنّ الأثمان التي ستدفعها لقرار مضيّها في الحرب لن تقتصر على الخسائر التي تتكبّدها في الميدان الأوكراني، بل هي ستتعدّاه لتشمل الداخل الروسي، والدوائر المقربة منها. أما بالنسبة إلى الرأي العام، فإن الذين دبّروا هذه المحاولة يريدون إقناعه بأن الأمن أصبح مفقوداً، وأن الأوضاع التي بقيت مستقرّة في الداخل الروسي منذ اندلاع النزاع، لن تبقى كذلك، وأن مَن ينال من مقرّبين من رأس هرم السلطة، لديه قدرة إيذاء لا يستهان بها. ينبغي التوقّف عند تصريح ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم الخارجية الروسية، واتّهامها للمسؤولين الأوكرانيين، في حال إثبات ضلوعهم في المحاولة باستخدامهم لإرهاب الدولة. عندما يتمّ تصنيف أيّ جهة، دولتية أو غير دولتية، على أنها إرهابية، قد يكون هذا الأمر مقدِّمة لاستهدافها. هذا ما فعلته الولايات المتحدة خلال عهد ترامب، عندما صنّفت الحرس الثوري الإيراني على أنه منظّمة إرهابية، وقامت بعدها باغتيال اللواء الشهيد قاسم سليماني. تأكُّد ضلوع القيادة الأوكرانية في المحاولة، سيعني أنها ستصبح في دائرة الاستهداف المباشر. لكن القيادة الروسية مدركة لحقيقة الإشراف الغربي المباشر على المجابهة التي تخاض معها، وأن قرار تهديد الأمن والاستقرار الداخليَّين لبلادها، لم تتّخذه كييف وحدها. لم يحصل ذلك في أوج الحرب الباردة، لكنه يحصل اليوم، لأن الإمبراطورية الأميركية المنحدرة لم تَعُد واثقة من قدرتها على الانتصار في حرب باردة كما في الماضي، فتعمد إلى «تسخين» تلك الجارية حالياً. هذا خيار محفوف بالمخاطر.