صنعاء | يبدو أن السعودية اغترّت كثيراً بما وفّرته لها الحرب الروسية - الأوكرانية من فرصة ثمينة ونادرة لابتزاز أطراف كثيرة، وفرض وقائع وفق ما تشتهيه في غير ملفّ، ليس اليمن مستثنًى من بينها. لكن الضربة الجوّية اليمنية التي استهدفت منشآت اقتصادية حيوية فيها يوم أمس، جاءت لتعيد المملكة إلى حقيقة الموقف، مُذكّرة إيّاها بأن لا جدوى من الاستمرار في «نطح الجدار»، أو تلبّس لبوس «داعية السلام»، وأن الحلّ الوحيد يكمن في الاعتراف بالوقائع والدخول في مفاوضات جادّة وحقيقية على أساسها. وإذا كانت الضربة قد أتاحت للراعي الأميركي، الذي يتخبّط مع حليفه الإسرائيلي في البحث عن حلّ للصواريخ والمسيّرات، فرصة مضادّة للضغط على الرياض ودفعها إلى تنفيذ ما يريده، فإن المنطق الذي لا يزال ينظّر به لعملية السلام لم يفارق الطروحات السابقة نفسها لناحية الإصرار على ركس الواقع الميداني، وإرضاخ "أنصار الله" بالتفاوض بدلاً من الحرب، وهو ما يعني أن العدوان سيفتح عامه الثامن، من دون مؤشّرات في الأفق إلى نهاية قريبة
في وقت تحاول السعودية استغلال الحرب الروسية - الأوكرانية في الضغط على إدارة جو بايدن من أجل دفع الأخيرة إلى خطوات «أكثر حزماً» في اليمن، مُشهِرة في ذلك سلاح النفط الذي ترفض إلى الآن زيادة إنتاجها منه وفقاً لما يرغب فيه الأميركيون، وبينما جدّدت أيضاً تحايلها على مأزقها المستمرّ في البلد المجاور لها، عبر دعوتها، بالتلطّي وراء «مجلس التعاون الخليجي»، إلى حوار يمني - يمني في الرياض، مُصوّرةً نفسها في مظهر الراعي لمسار الحلّ في حين تتصدّر هي العدوان منذ سبع سنوات، جاء هجوم قوات صنعاء الجوّي على منشآتها الاقتصادية الحيوية في غير منطقة من المملكة، ليعيدها إلى حقيقة الموقف الذي لا يفتأ حكّامها يتجاهلونه، مصرّين على طروحات لا تعني سوى محو كلّ الوقائع الميدانية والاستراتيجية التي تمكّن الجيش اليمني و»اللجان الشعبية» من تثبيتها على مرّ الأعوام الماضية.
وإذا كان الهجوم مرتبطاً، في سياق من سياقاته، بقيام التحالف السعودي - الإماراتي بتشديد حصاره المفروض على اليمن، عبر «قرصنته» السفن المتّجهة إلى ميناء الحديدة، ومنعها من الدخول إلى البلاد، ما تسبّب بأزمة مشتقّات نفطية حادّة في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات صنعاء، فهو يحمل أيضاً سلسلة رسائل سياسية واستراتيجية بالغة الدلالات. رسائل لعلّ أهمّها أن ما تقوم به السعودية من محاولة «إجبار» إدارة بايدن على تأمين مظلّة حماية حقيقية لها من تهديد الصواريخ والمسيّرات، تحت ضغط الأزمة التي ولّدتها الحرب الروسية - الأوكرانية في سوق الطاقة، لن يفضي إلى أيّ مكان في ما يتّصل بالأزمة اليمنية تحديداً، لا لهشاشة الضغط السعودي، وإنّما لكون واشنطن وتل أبيب نفسيهما لا تكادان تجدان حلّاً لمسألة تطوّر القدرات العسكرية غير التقليدية في المنطقة، وفق ما تؤكده تقديرات الخبراء الإسرائيليين والأميركيين.
أمّا بخصوص المسار السياسي، والذي كانت توقّفت أيّ تحرّكات جادّة في شأنه خلال الفترة الماضية، فتأتي الضربة اليمنية لتُعيد تذكير السعودية بمُحدّداته، وعلى رأسها أن الأخيرة هي الطرف الثاني الحقيقي في الحرب في مقابل حركة «أنصار الله»، وأن لا جدوى من إنكار هذه الوقائع لصالح تلبّس لباس داعية السلام الذي يريد الصُلح بين اليمنيين، الأمر الذي كانت نبّهت إليه حكومة صنعاء بتأكيدها، تعليقاً على دعوة «التعاون الخليجي» إلى الحوار، «(أننا) نرحّب بأيّ حوار مع دول التحالف في أيّ دولة محايدة وغير مشاركة في العدوان، سواءً من دول مجلس التعاون الخليجي أو غيرها». وفي انتظار ما يمكن أن ينقلب إليه موقف السعودية - في أعقاب الهجوم الجديد - التي يبدو أنها لا تزال مصرّة على «نطح الجدار»، برز أمس لقاء المبعوث الأممي، هانس غروندبرغ، الناطق باسم «أنصار الله»، رئيس وفدها التفاوضي محمد عبد السلام، في مسقط، حيث جرت مناقشة «هدنة محتملة في شهر رمضان»، وفق إعلان عبد السلام على «تويتر»، وهو ما يشرّع الباب على إمكانية إحداث اختراق في جدار الأزمة التي تفتح خلال أيام قليلة عامها الثامن على التوالي. لكن الموقف الأميركي في هذا الشأن، والذي يمثّل عنصراً رئيساً من عناصر الحرب والسلم، لا يُظهر إلى الآن تَغيّراً جوهرياً لصالح السلام؛ إذ أعاد مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، أمس، التأكيد أنه «حان الوقت لإنهاء الحرب في اليمن، لكن هذا لن يحدث إلّا إذا وافق الحوثيون على التعاون مع الأمم المتحدة»، لافتاً إلى أن «الرياض والحكومة اليمنية أيّدتا دعوات أممية عدة لوقف إطلاق النار ووقف التصعيد فيما رفضها الحوثيون».
أعلن عبد السلام أنه جرت مناقشة «هدنة محتملة في شهر رمضان»


وبالعودة إلى الهجوم اليمني الأحدث، فلم تمضِ سوى ساعات على تهديد رئيس «المجلس السياسي الأعلى» في صنعاء، مهدي المشاط، «دول العدوان بضربات مؤلمة ردّاً على إمعانها في تشديد الحصار على الشعب اليمني»، حتى نفّذت القوة الصاروخية ووحدة الطيران المسيّر، فجر أمس، أوسع عملية طاولت منشآت اقتصادية سعودية حيوية في نطاق جغرافي واسع. العملية التي استُخدمت فيها العشرات من الطائرات المسيّرة من نوع «صماد 3» طويلة المدى، و»صماد 1»، وصواريخ باليستية مجنّحة، نُفّذت على مرحلتَين، استَهدفت في الأولى مواقع تبعد عن الأراضي اليمنية 1200 كيلومتر في الرياض وينبع، وفي الثانية منشآت في عدد من مناطق جنوب السعودية في أبها وخميس مشيط وجيزان وسامطة وظهران الجنوب.
وأعلن المتحدّث باسم قوات صنعاء، العميد يحيى سريع، أن العملية «تأتي في إطار حق الردّ المشروع على جرائم العدوان السعودي الإماراتي بحق الشعب اليمني»، مُطلِقاً عليها تسمية «عملية كسر الحصار الثانية»، متوعّداً بهجمات إضافية خلال الفترة المقبلة. وأكد سريع أن الجيش و»اللجان» يمتلكان «إحداثيات متكاملة ضمن بنك أهداف خاصة، يضمّ عدداً كبيراً من الأهداف الحيوية السعودية التي قد تُستهدف في أيّ لحظة»، محذّراً «دول العدوان من تبعات استمرار الحصار الغاشم، على منشآته ومشاريعه الاقتصادية». وهو ما نبّه إليه، أيضاً، عضو المكتب السياسي لـ»أنصار الله»، محمد البخيتي، الذي جزم أن «ضربات اليمن في العمق السعودي ستستمرّ حتى رفع الحصار، ونضع إدانات العالم تحت أقدامنا».
في المقابل، اعترفت السعودية بتعرّضها لضربات جوية مصدرها صنعاء، وقالت إن طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية استهدفت كلّاً من محطة تحلية المياه التابعة لشركة «آرامكو» في جيزان، ومحطة كهرباء حكومية في ظهران الجنوب، وشركة الغاز البترولي في خميس مشيط، إضافة إلى منشأة تابعة لـ»آرامكو» في الرياض، ومصفاة «ساينوبك» لتكرير النفط في ينبع، والتي تنتج 400 ألف برميل في اليوم الواحد، وتُخصَّص لتموين الأسواق السعودية. وفي وقت لاحق، اعترف المتحدّث باسم «التحالف»، تركي المالكي، بتعرّض شركة «آرامكو» في مدينة جدّة لهجوم جوّي، فيما أكد عدد من الناشطين السعوديين اندلاع حرائق واسعة في محطّة لتوزيع المنتجات البترولية في المدينة، كما أظهرت مواقع رصد الملاحة الجوية توقُّف حركة الطيران من وإلى مطار جدة. ويعني ذلك أن «عملية كسر الحصار الثانية» استمرّت إلى ما بعد المرحلتين الأولى والثانية المعلنتَين ابتداءً منها، وهو ما أنبأ به أيضاً إعلان سريع أن «البيان رقم 2 للقوات المسلحة اليمنية سيَصدر خلال الساعات المقبلة للإعلان عن عملية عسكرية واسعة في العمق السعودي»، الأمر الذي حصل في وقت متأخر من مساء أمس، حيث أكد الناطق باسم الجيش و»اللجان» استهداف منشآت «آرامكو» في جدة بصواريخ من طراز «قدس 2».
وكانت قوات صنعاء نفذّت «عملية كسر الحصار الأولى في 11 آذار الجاري، مُستهدفةً مصافي «آرامكو» في الرياض، والتي تنتج أكثر من 100 ألف برميل، ومنشآت تابعة للشركة أيضاً في جيزان وعسير، ومُستخدِمةً في العملية تسع طائرات مسيّرة، منها ثلاث من نوع «صماد 3» طويلة المدى، وستّ من طراز «صماد 1». وجاءت العملية الثانية أمس لتلقى ترحيباً واسعاً على المستويَين الرسمي والشعبي في صنعاء، حيث دافع نائب رئيس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع، جلال الرويشان، بأن «هذه العمليات تأتي ردّاً على عقاب جماعي يتعرّض له 25 مليون نسمة»، معتبراً إيّاها «الردّ الأمثل على استمرار الحصار»، ومؤكداً أنها «ستستمرّ وتتوالى حتى يتم رفع الحصار عن الشعب اليمني».
وكان «التحالف» رفض المساعي التي بذلها مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في اليمن خلال الأسبوعين الماضيين، من أجل الإفراج عن السفن المحتجَزة قبالة ميناء جيزان. كما أنه أوعز إلى حكومة الرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، بمنع دخول صهاريج تحمل كميات محدودة من الوقود الذي يُستخدم لإيقاف انهيار القطاع الصحي في صنعاء خلال الأيام الماضية، لتعمد تلك الحكومة إلى بيع الكميات التي تصل إلى ميناء عدن بفارق سعر يصل إلى 22 مليون دولار عن تكاليف السفن التي تصل ميناء الحديدة، وفقاً لتأكيدات شركة النفط في صنعاء. ونتيجة لسياسة تشديد الحصار هذه، تدهورت الأوضاع الإنسانية بشكل حادّ في المحافظات الواقعة تحت سيطرة حكومة الإنقاذ، ممّا دفع قائد حركة «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، إلى التأكيد أن «كلّ الخيارات لا تزال مفتوحة»، وتوعّد «دول العدوان بالندم الكبير»، والتلويح بأنه «لن يسمح بتجويع الشعب اليمني، وسيعمل بكلّ الوسائل على تخفيف معاناته».