بوقاحة، اعترفت الدولة اللبنانية بـ 17 الف مفقود خلال الحرب الأهلية، وسكتت. غير هذا الرقم، لم يصدر عنها شيء لأن أرباب السلطة، الذين كانوا زعماء ميليشيات الحرب، قرروا أن كشف مصير المفقودين يؤدي إلى الإخلال بالسلم الأهلي. كيف يتحقق السلم ما لم يعرف الناس مصير أولادهم؟ ماذا حصل في الحرب؟ لماذا لم يحاسب أحد؟ من ارتكب الجرائم والمذابح؟ ولماذا مات مئات الآلاف؟ لم يجد زعماء الميليشيات داعيا للإجابة عن أي سؤال. صدر العفو العام لينهي كل شيء.
وحدهم، أهالي المفقودين، دخلوا في عذاب طويل في ظل إنكار الجميع معرفة شيء. عشرات السنين مضت على بداية الحرب وانتهائها تحوّل فيها المفقودون إلى أرقام في سجلات الدولة التي تحاول دفنهم باستمرار. حتى الناس تأقلموا مع ما فرضه زعماء الميليشيات: نسوا واستهتروا وعدوا الجميع أمواتاً، لكن "ما الذي حدث لكاريمان، علي، قزحيّا، محمد، جوزيف، ماري كريستين وعدنان؟
اعترفت الدولة اللبنانية بـ 17 الف مفقود خلال الحرب الأهلية
ماذا حدث لآلاف الأشخاص الذين فُقِدوا؟ ما الذي بقي من أسمائهم، وجوههم، قصصهم؟". كيف قبل الناس أن ينسوا أحمد ديراوي إبن الثلاثة عشر عاماً الذي شوهد للمرة الأخيرة في ساحة المطار يضع يده على رأسه؟ كيف عبروا فوق مصير سميرة برجاوي التي اختفت عام 1982 ولم يصل منها سوى عقد أوصلته رفيقتها المحررة؟ من بين 17 الف مفقود لا يعرف الناس سوى قصص قليلة لمن تمكّن ان يوصل صوته، فيما بقي الكثيرون يعانون بصمت.
من هنا، أتت حملة "لا تدعوا قصتي تنتهي هنا" التي وثّقت قصص المفقودين وأنتجت مشروع "فسحة أمل"، الذي أطلقته منظمة "لنعمل من أجل المفقودين"، بالتعاون مع لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وسوليد و16 منظّمة من منظمات المجتمع المدني، كي لا يتحول الضحايا الى أرقام. المشروع هو عبارة عن "موقع رقمي تفاعلي يسعى إلى جمع وتسليط الضوء على القصص الفردية لآلاف الأشخاص الذين فقدوا في لبنان على مدى العقود الأربعة الماضية، والذين لا يزال ذووهم يكافحون من أجل معرفة مصيرهم".
تقول جوستين دي مايو، مديرة منظمة "لنعمل من أجل المفقودين"، ان "هذه الحملة دعوة لأخذ خطوة للخروج من فقدان الذاكرة الجماعي الذي دفن آلاف القصص غير المحكيّة". ما هي الـ "هنا"؟ "هنا" تشير الى المكان والزمان حينما فُقِد الشخص. ماذا حدث بعد الـ "هنا"؟ بعدما أوقفَ سيارته على نقطة التفتيش؟ بعدما إقتادوه من المنزل؟ بعدما خرج من الجامعة؟
كان ميشال كساب متوجها ورفاقه في شتاء عام 1985 من منطقة فردان الى كورنيش المزرعة. لدى وصولهم اوقفهم أحد الاحزاب المسلحة ولم يعرف عنهم أي شيء منذ ذلك الحين.
محمود اليمن فُقد عام 1975 أثناء مزاولتهِ لعمله قرب منطقة المتحف، وكان ذلك في اليوم الذي سُميَّ من بعدها "السبت الأسود". كان يبلغ حينها 45 عاماً.
كان محمد مصطفى وبطرس خوند وأحمد خانجي والياس نسيم وحسين الزين… وكانت اعتدال عوض وسامية محمود وفادية الأحمد وماري سالم… وكان كثيرون غيرهم، اختفوا ولم نعرف شيء.
أكثر من 80 صفحة مخصّصة للأشخاص المفقودين باتت متاحة للجميع على الموقع www.fushatamal.org. كل مفقود لديه صفحته كي لا يُنسى، يحكي فيها أهله قصته، كيفية اختفائه، شهادات من رأوه ووُضعت فيها صور له.
على مدى عشرة أسابيع مقبلة، ستنشر "الأخبار"، كل أربعاء، قصة مفقودٍ وصورته كي "لا تنتهي القصة هنا" لأن للأهالي حقا في معرفة مصير أولادهم كخطوة أولى لمعالجة مآسي الحرب.




علي حمادة: كان ذلك عام 1984


"إسمي علي حمادة، وُلِدتُ عام 1971 في عائلة صغيرة تتكوّن من أمّي نايفة وأنا. كل يوم، كانت توصلني الى المدرسة وهي في طريقها الى مكاتب صحيفة السفير حيث كانت تعمل. من فترة الى أخرى، كنا نستمتع بالمغامرات القصيرة هربا من أدغال مدينة العنف لزيارة بيت جدّي في القماطيّة، التي تبعد حوالي 17 كلم عن العاصمة.
لسخرية القدر، فُقِدتُ بعد إحدى هذه المغامرات! كان يوم الإثنين، وكنت في طريقي الى بيروت بعد قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع جديّ. التاريخ، 26 آذار 1984!
في طريق العودة الى المدينة، أقلّني صديق للعائلة في سيارته وكان من المفترض أن يوصلني الى تقاطع المتحف غير أنّنا لم نعد لعائلاتنا في نهاية المطاف، وببساطة اختفينا. كتبت أمّي عدّة مقالات في صحيفة السفير على أمل أن تصلني. لقد رَجَتْنِي ألا أسمح لخاطفيّ بأن يزرعوا بذور الشر فيّ، وألا أدعهم يسلبونني براءتي وروح الطفل فيّ. كتبت أنّنا سنهجر البلاد حالما أعود، وعن رغبتها في حمايتي من أيّ خطر ولكنّ ذلك لم يحصل فأنا لم أعد أبداً!
وفي السابع والعشرين من كانون الأوّل 1984، وفي التاسعة مساء، تملّكها اليأس وأنهت حياتها.
كنتُ في الثالثة عشرة حينما انتهت قصّتي، اليوم الذي حُرِمت فيه أمي الأرملة ابنها الوحيد. كثرٌ فُقِدوا مثلي خلال الأيام الدمويّة للحرب الأهليّة، وما زال أهلهم ينتظرون معرفة ما حصل لهم".
لا تدعوا قصتنا تنتهي هنا.




من أجل معرفة قصة علي الكاملة وقصص أشخاص آخرين فقدوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وإذا كنت أحد أقرباء شخص مفقود شارك قصته\قصتها على فسحة أمل. يمكنكم زيارة https://www.fushatamal.org/