حَمَل البيان الرابع لـ«المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني) حول الحراك الشعبي في العراق الكثير من الإشارات والدلالات. إشارات تلقّفتها القوى السياسية، وسارعت إلى محاولة تفسيرها، لحسم مواقفها وتموضعها السياسي على أساسها، بوصفها «خريطة طريق» رسمت حدوداً للتحرك والمناورة، وأرست مدخلاً جديداً لحلّ الأزمة. استُهلّ البيان بـ«الأسف» لاستمرار العنف بين المتظاهرين والقوات الأمنية، واعتداء آخرين بـ«الحرق والنهب على العديد من الممتلكات العامة والخاصة». وهو ما تعزوه مصادر أمنية عراقية إلى نشاط مجموعات «مشبوهة»، تعمل على حرف الحراك باتجاه العنف، وجرّ العراقيين إلى الفوضى، الأمر الذي حذر منه البيان بالقول إن «المرجعية» ترفض أي «انزلاقة للبلاد إلى مهاوي الاقتتال الداخلي والفوضى والخراب»، داعياً «جميع الأطراف إلى أن لا تمنعهم الانفعالات العابرة أو المصالح الخاصة من اتخاذ القرار الصحيح»، في تحذير ضمني من اتخاذ أي موقف غير محسوب قد يدفع البلاد إلى المجهول.كذلك، دعا البيان إلى عدم «الزجّ بالقوات القتالية في التعامل مع الاعتصامات والتظاهرات السلمية»، في ما يبدو أن المقصود منه إمكانية زجّ «الحشد الشعبي» في مواجهة مع الشارع الغاضب. وبدعوتها تلك، تخيّب «المرجعية» آمال عدد من القيادات السياسية والأمنية والعسكرية، والتي سعت طوال الفترة الماضية للوصول إلى هذه اللحظة، ضمن مسار يبدو أن البعض يريده ويدفع في اتجاهه. وشدد البيان على ضرورة احترام إرادة العراقيين في تحديد النظام السياسي والإداري لبلدهم، من خلال إجراء الاستفتاء العام على الدستور والانتخابات الدورية لمجلس النواب، بوصفه «المبدأ الذي التزمت به المرجعية الدينية وأكدت عليه منذ تغيير النظام السابق». موقف قُرِئ لدى جهات عديدة على أنه رفض لإجراء انتخابات مبكرة، علماً بأن البيان السابق كان قد دعا إلى ضرورة «سنّ قانون منصف للانتخابات يعيد ثقة المواطنين بالعملية الانتخابية ويرغّبهم في المشاركة فيها». على أن آخرين ذهبوا في تفسيرهم لذلك الموقف على أنه موافقة على تغيير النظام السياسي من برلماني إلى جمهوري/ رئاسي، وإجراء استفتاء شعبي عليه، والدعوة إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة. وهو ما ترجمه رئيس «تحالف الفتح»، هادي العامري، ببيان طالب فيه بـ«إعادة صياغة العملية السياسية... وتعديل النظام إلى نظام آخر يناسب وضعنا». لكن مصادر سياسية مطلعة تؤكد لـ«الأخبار» أن هذه الدعوة أشبه ما تكون بـ«دعوة ميتة» لأسباب عدة؛ أبرزها ممانعة القوى السياسية القاطعة لأيّ تحول من هذا النوع، ورفض «المكوّنين «السني والكردي» تحديداً له، على اعتبار أن من شأنه «إقصاء وتهميش مكوّنات تطالب بتمثيل أكبر في العملية السياسية».
يبدو أن لعبة الشارع التي أجادها الصدر ضد الحكومات السابقة بدأت تنقلب عليه


بيان «المرجعية» تطرق أيضاً إلى الإصلاح بوصفه «ضرورة حتمية»، مشدداً على أنه «ليس لأيّ شخص أو مجموعة أو جهة بتوجه معين أو أيّ طرف إقليمي أو دولي أن يصادر إرادة العراقيين... ويفرض رأيه عليهم». وهو ما تم تفسيره على أنه رسالة إلى كلّ من إيران (الطرف الإقليمي)، والولايات المتحدة (الطرف الدولي)، وزعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، الذي حرص طوال الأيام الماضية على تصدير نفسه بوصفه «مرشد الجمهورية» العراقية، مُحدّداً معايير العملية السياسية وأطرها وفق ما يراه مناسباً. هذه الرسالة تعتقد مصادر حكومية أنها ستزيد من حراجة موقف الصدر، الذي كان قد تلقى «اللاء» الأولى من إيران التي دانت موقفه من الحكومة، عادّة إياه تهديداً لـ«الأمن القومي لبلد جارٍ، ومحاولة إسقاط حكومة حليفة وصديقة»، ما دفع بالزعيم الشاب إلى العودة إلى النجف، حيث استقبلته «اللاء» الثانية برفض «المرجعية» الالتقاء به، لتأتي «اللاء» الثالثة من الحراك الشعبي الذي رفض تصدّره التظاهرات.
هكذا، يبدو أن لعبة الشارع التي أجادها الصدر طوال المرحلة السابقة بدأت تنقلب عليه، ما يجعله في موقف أضعف مما كان يتصوّره حالياً، فيما تتواصل الاتصالات السياسية معه للوصول إلى تفاهمات تخرج العراق من الأزمة الراهنة، ومن ثم العمل على ضبط الشارع والنزول عند المطالب المعيشية المحقّة للمتظاهرين.