«سبعون ألف عراقي كانوا يحملون العلم السعودي»، أثناء المباراة «التي خاضها منتخب السعودية مع منتخب العراق في محافظة شيعية (البصرة) مؤخراً». ذلك ما قاله ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خلال زيارته الأخيرة لمصر، في معرض تفاخره بأن بلاده «تمكنت من محاصرة النظام الإيراني في كل مكان»، و«باتت تمتلك التأثير في بعض الدول العربية، ومنها العراق».
ليس كلام ابن سلمان مجرد مباهاة في الهواء، بل هو تجلٍّ لما يدور في العقل السعودي راهناً من تطلّع إلى تطويق النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين، عبر سياسات «ناعمة» تستخدم الأموال والمشاريع والاتفاقات بدلاً من «المفخخات». قد لا يكون مهندس سياسات المملكة مخطئاً في تقديره إمكانية نجاح تلك الخطوات، خصوصاً أنها تتسارع في وقت يشتد فيه السباق الانتخابي، مع ما يعنيه الأمر من احتمالية تأثيرها على خيارات الناخبين. لكن الحقيقة التي تبدو غائبة عن صانع القرار السعودي أن ثمة إرثاً سلبياً ثقيلاً لدى العراقيين إزاء المملكة يصعب محوه بسرعة وسهولة، وأن الأطراف الأخرى النافذة على الساحة العراقية لا تقف مكتوفة الأيدي أمام الرياض.
منذ الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى بغداد، في شباط/ فبراير من عام 2017، بدأ العمل المكثف على النفاذ إلى المحافظات العراقية الجنوبية، حيث القاعدة الشعبية الرئيسة لمن توصّفهم المملكة بأنهم «رجالات إيران». برزت، من بين المناطق المستهدفة بتلك المساعي، مدينة البصرة، ثالثة أكبر مدن العراق، وعاصمة البلاد الاقتصادية التي يقع فيها بعض أهم حقول النفط، والتي تجمعها حدود مع السعودية من جهتها الجنوبية. لم يقتصر الأمر على إعلان السلطات السعودية نيتها إعادة افتتاح قنصليتها في البصرة «قريباً جداً»، والذي ترافق الاحتفاء به مع توارد أنباء عن قيام المملكة بشراء مساحات واسعة من أراضي المدينة عبر سماسرة محليين («الأخبار»، العدد 3391) في مؤشر خطير إلى ما تستبطنه الرياض، بل تعدّاه إلى خطوات أخرى على مستويات مغايرة، أكدت وجود نيات سعودية لـ«اقتحام» البصرة من أبوابها كافة.

يُتوقّع أن تغري السعودية العراق بإعادة تشغيل خط الأنابيب الاستراتيجي


في الـ28 من شباط الماضي، أقيمت على ملعب «جذع النخلة» في المدينة مباراة هي الأولى من نوعها بين المنتخبين السعودي والعراقي، بعد انقطاع استمر قرابة 40 عاماً. احتفلت وسائل الإعلام الموالية للرياض على نحو واسع بالمباراة، عادةً إياها «منعطفاً مهماً في العلاقات العراقية ــ السعودية بنكهة رياضية ــ سياسية». ترافق ذلك مع «تمنين» سعودي واضح للعراقيين بأن المملكة آثرت بلادهم من ضمن جدولها المزدحم بالدوريات المحلية والمباريات التجريبية، لمساعدتهم على رفع الحظر المفروض من قبل الاتحاد الدولي لكرة القدم على ملاعبهم. وعلى أرض الملعب، بدا لافتاً انتشار لافتات ترحيبية بالسعودية، وظهور شعارات من قبيل «السعودية قول وفعل»، في وقت انطلقت فيه على مواقع التواصل الاجتماعي حملة بعنوان «دارك يا الأخضر» (المقصود به المنتخب السعودي). في الخلاصة، نجحت الرياض في تصدير صورة احتفائية بوجودها في بلاد الرافدين، على طريق «انتصار العروبة والوطنية»، على حدّ توصيف وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، للمباراة. نجاح سرعان ما أتبعته المملكة بإعلان ملكها، سلمان بن عبد العزيز، إهداء ملعب للعراق، وفق ما أفاد به مكتب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، يوم الأربعاء الماضي.
هذا الإعلان جاء عقب يوم واحد من انعقاد اجتماع لـ«المجلس التنسيقي الوزاري العراقي ــ السعودي»، اتُّفق خلاله على توقيع 12 مذكرة تفاهم «في غضون فترة قريبة»، لتضاف إلى 4 أخريات كان قد تم التوقيع عليها بين الجانبين، فضلاً عن الشروع في توزيع المنحة السعودية المُقدّمة للمنظمات الإغاثية العراقية والبالغة 20 مليون دولار. وكانت السعودية قد تبرعت للعراق، خلال «مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق» الذي انعقد أواسط شباط/ فبراير الماضي، بمليار دولار عن طريق «الصندوق السعودي للتنمية»، بالإضافة إلى 500 مليون دولار لتمويل الصادرات السعودية إلى بلاد الرافدين، في أرقام رأت فيها وكالة «بلومبرغ» مؤشراً إلى أن دول الخليج «تعدّ الدعم المالي وسيلة لإضعاف النفوذ الإيراني»، واصفة ذلك بـ«الخطوة الذكية»، إلا أنها شكّكت في إمكانيات نجاحها.
اللافت أيضاً أن تلك الخطوات ترافقت مع بدء الشركات السعودية افتتاح مكاتب لها على الأراضي العراقية، إثر مشاركة العشرات منها (60 شركة) في معرض بغداد الدولي الـ44 الذي نُظّم نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2017. وبحسب المعلومات المتداولة، فإن عملاق البتروكيماويات السعودي، «الشركة السعودية للصناعات الأساسية» (Sabic)، أعادت، بالفعل، افتتاح مكتبها في العراق، بعدما كان وزير الطاقة السعودي خالد الفالح قد أعلن، خلال زيارته الأخيرة للبصرة في كانون الأول/ ديسمبر الفائت، أن «سابك» في «المراحل الأخيرة» من عملها على هذا الصعيد. ومن المنتظر، خلال الفترة المقبلة، أن تشرع شركات أخرى، من بينها «شركة التصنيع وخدمات الطاقة السعودية» (Saic)، في اتخاذ خطوات مماثلة.

بدأت الشركات السعودية افتتاح مكاتب لها على الأراضي العراقية

هذه «الهجمة» السعودية على بلاد الرافدين لا تقف عند حدود الدعم المالي والتبادل التجاري والاستثمارات المشتركة، بل تشمل وجوهاً أخرى مشابهة لمباراة «جذع النخلة»، ترى المملكة أنها من العدة الضرورية للعودة إلى ضفاف «شطّ العرب». أواسط الشهر المنصرم، «حجّ» شعراء سعوديون إلى سوق المربد، أحد أشهر الأسواق القديمة في البصرة، حيث سُجّلت لهم مشاركات في «مهرجان المربد الشعري» الذي تقيمه وزارة الثقافة العراقية في المدينة سنوياً. وعقب قرابة شهر من ذلك الحدث، بدأ وفد إعلامي سعودي يضم رؤساء تحرير صحف رسمية زيارة للعراق، حيث التقى مسؤولين رسميين ونواباً وحزبيين، في ظل «حفاوة غير مسبوقة»، على حدّ تعبير أحد أعضاء الوفد، ووسط «اهتمام وتفهّم عاليين من قبل العراقيين لأهمية العلاقة الجديدة مع المملكة»، وفق كلام عضو آخر.
في المرحلة المقبلة، يُنتظر أن تشرع السعودية في تشييد منطقة تجارة حرة على حدودها مع العراق، بعد الانتهاء من تأهيل منفذ عرعر الذي أُعلن الاتفاق على إعادة افتتاحه في آب/ أغسطس 2017، في مشروع تحوم حوله الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام. كذلك، يُتوقّع أن تغري المملكة العراقيين بإعادة تشغيل خط الأنابيب الاستراتيجي الواصل بين منابع النفط في بلاد الرافدين وموانئ ينبع السعودية على البحر الأحمر، والذي أُغلق بقرار من الرياض إبان حرب الخليج الثانية، مقابل الحصول على فرص استثمارية في العراق، وخصوصاً في محافظة البصرة، قد تشمل شق طرق ومشروعات تجارية وزراعية.
على هذا النحو إذاً، تتبلور استراتيجية السعودية البديلة في العراق، بعد سنوات من الإخفاقات المتتالية. استراتيجية لا تخلو من عناصر القوة التي تمكن المراهنة عليها في بلد خارج للتوّ من حرب شرسة أنهكت اقتصاده وسكانه. لكن ما يضعّف تلك الخطة ويجعلها عرضة للفشل ثلاثة عوامل رئيسة لا يمكن القفز عليها: أولها أن خطة من النوع المتقدم تتطلب نَفَساً طويلاً وصبراً ورهانات بعيدة الأمد ــ لا سيما في بلد مثل العراق، سبق له أن اكتوى بنيران الإرهاب الذي لا تزال لوثته تلاحق المملكة ــ وذلك ما لا ينطبق بحال على ولي العهد السعودي المستعجل في تحقيق «طموحاته» دفعة واحدة. وثانيها أن ثمة أطرافاً منافِسة للسعودية لها هي الأخرى «عدّة شغلها» التي تناظِر ما هو موجود لدى المملكة (افتتحت إيران أواخر 2017 أوسع مشروع تجاري لها في السوق العراقية)، مع فارق رئيس متمثل في أن بعضها متوافر على عناصر قوة إضافية لعلّ أهمها صعود قوى وازِنة حليفة له (الحشد الشعبي)، وأن بعضها الآخر تربطه ببغداد مصالح استراتيجية قد تحتّم على الطرفين العمل معاً (يمكن فهم إعلان تركيا أول من أمس عن عملية مشتركة مع العراق ضد الأكراد في هذا الإطار). أما ثالثها فهو أن العراق لا يقلّ في تعقيداته السياسية عن «المستنقع اليمني»، وبالتالي قد تجد السعودية نفسها وسط دوامة يعسر عليها الخروج منها.




انتخابياً... الرهان على علاوي والصدر

تضع السعودية رهاناتها، في ما يتصل بالاستحقاق الانتخابي المنتظر في العراق في 12 أيار/ مايو المقبل، على تحالفين: الأول يقوده رئيس الوزراء السابق إياد علاوي، ويجمع إلى علاوي شخصيات وأحزاباً «سنية»، والثاني يتزعمه زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، ويضم إلى جانب «الصدريين» «الحزب الشيوعي» وتيارات مدنية. تأمل المملكة تكرار سيناريو 2010، عندما تصدرت «القائمة العراقية» بزعامة علاوي لائحة الفائزين بحيازتها 91 مقعداً. إلا أنها تتطلع، فضلاً عن ذلك، إلى تعميق الشرخ بين «التحالف الوطني» و«التيار الصدري» بما يحرم الأول من إمكانية تجيير مقاعد «الصدريين» عقب الانتخابات لمصلحته، كما كان يحدث في كل استحقاق عندما تعود «القوى الشيعية» الى الالتئام بعد السباق الانتخابي (لولا ذلك لما تمكن «التحالف الوطني» من الاحتفاظ برئاسة الوزراء عام 2010). وإذا ما تحقق للسعودية ما تتطلع إليه، فمن الممكن حينها توقع تشكل «كتلة معارضة» نافذة تجمع علاوي مع «الصدريين». تحسباً لتلك الاحتمالات، وقطعاً للطريق أمام السعودية، تتكثف الاتصالات داخل «التحالف الوطني» بهدف الاتفاق على سيناريو ما بعد الانتخابات، حتى لو لم تفلح «الوساطة الإيرانية» في دفع أطرافه إلى خوض الاستحقاق مجتمعين.