«هدية من فيديل كاسترو إلى سلفادور ألليندي». هذه الكلمات كانت محفورة على رشاش كلاشنيكوف كان كل ما تبقى لرئيس جمهورية تشيلي المحاصر في قصر لامونيرا الجمهوري ليدافع عن نفسه يوم 11 أيلول 1973.
لم يستسلم سلفادور ألليندي ولم ترعبه الطائرات الحربية التي أغارت على القصر الجمهوري ودمرت وأحرقت جزءاً منه. قاتل وحده حتى النهاية. اليساريون الثوريون التشيليون لم يأتوا لنصرته لأنه كان قد جردهم من السلاح وحل تنظيمهم العسكري لمصلحة الجيش ومؤسسات الدولة. وخلال الساعات الأولى للانقلاب، اعتقل الجيش التشيلي بقيادة العميل الانقلابي أوغوستو بينوشيه أكثر من 80 ألف رجل وامرأة من مؤيدي وأصدقاء ألليندي، الذي كان أول قائد يساري ماركسي يصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات الديموقراطية عام 1970.

تحولت هدية كاسترو إلى
السلاح الوحيد الذي دافع به ألليندي عن شرعية الدولة


خلال ثلاثة أعوام من حكم الرئيس اليساري، عملت الاستخبارات الأميركية على إسقاط الرئيس الديموقراطي مستخدمةً الإرهاب والتحريض والتضليل الإعلامي، لكن ألليندي لم يتراجع عن تنفيذ برامج الإصلاح التي كان قد انتُخب على أساسها، فشرع في تأميم مناجم الحديد التي كانت تسيطر عليها الشركات الأميركية، وأمر بتوزيع الحليب مجاناً على أطفال الفقراء وأطلق خطة النهوض التربوي والتعليمي والثقافي. ودعا المحازبين وكل الثوريين إلى تسليم سلاحهم إلى الجيش والقوى الأمنية الشرعية.
وفي عام 1971، زار القائد الكوبي فيديل كاسترو رفيقه الماركسي ألليندي في العاصمة سانتياغو، وعقد الرجلان حلقات نقاش طويلة بشأن العمل الثوري والنضال ضد الامبريالية والرأسمالية والاستغلال والعمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. وبينما اتفق القياديان على كثير من الأمور، كانت لألليندي وجهة نظر خاصة بشأن العمل الثوري المسلح. أصر الرئيس التشيلي على المسار الديموقراطي، وشدد على حصرية السلاح بيد الجيش والقوى الأمنية الرسمية. أقلق ذلك كاسترو الذي كان قد تعرض لمئات محاولات الاغتيال والانقلاب والخيانة في كوبا منذ انتصار الثورة عام 1959.
فالاستخبارات الأميركية تستخدم وسائل عديدة للتخلص من اليساريين في أميركا اللاتينية، لا تقتصر على الاغتيالات السياسية، بل تشمل كذلك التحريض على الخيانة والغزو المسلح والحصار والتجويع والانقلابات العسكرية.
قبل عودته إلى هافانا، أهدى فيديل إلى رفيقه التشيلي هدية أراد أن تكون رمزيةً، لكن سلفادور بقي متمسكاً بموقفه. وتحولت الهدية لاحقاً إلى السلاح الوحيد الذي دافع به ألليندي عن شرعية الدولة بعدما ألغى بينوشيه الدستور بالحديد والنار.
فيديل كاسترو لم يخلع لباسه العسكري إلا خلال مناسبات نادرة. عشرة رؤساء أميركيين تولوا الحكم في واشنطن ولم يتمكنوا من التخلص من القائد الثوري. لا بل انتقلت كوبا بقيادة الرفيق فيديل من الدفاع إلى الهجوم في مطلع ستينيات القرن الماضي، وهددت الولايات المتحدة عسكرياً بالصواريخ النووية، وهو ما أحدث حالة هلع بين الأميركيين ودفعهم لأول مرة في تاريخهم الإمبريالي إلى ملازمة الملاجئ.

«الموت لا يهم
الرجل صاحب العقيدة، لأن ما يهمه أكثر من الحياة هو الشرف، يهمه المجد، يهمه انتصار قضيته»
(من رسالة عبر راديو ريبيلدي بعد أول هجوم لجيش باتيستا)




ولم يتردد فيديل ورفيقه المناضل الأرجنتيني تشي غيفارا في التدخل عسكرياً في أفريقيا لنصرة الشعوب المضطهدة من النظام العنصري الجنوب أفريقي، فأرسل السفن المحملة بالمقاتلين الثوريين والسلاح والعتاد إلى أنغولا. وشارك الكوبيون في معركة كويتو كوانافالي المفصلية عام 1988. وبعد انتصار الثورة وإسقاط نظام التمييز العنصري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا عام 1991 وخروج نلسون مانديلا من السجن بعد 27 عاماً من الحبس الانفرادي، وانتخابه رئيساً لبلاده، اختار الزعيم الأفريقي هافانا محطةً أولى لجولته الخارجية. وقال مانديلا عام 1991: «صديقتنا كوبا ساعدتنا على تدريب شعبنا وزودتنا بسلاح مكّننا من المضي في نضالنا». وأضاف: «خلال السنين التي أمضيتها في السجن كان فيديل كاسترو مصدراً للإلهام والصمود».
وكان فيديل من المعجبين بصديقه القائد الخالد جمال عبد الناصر، ورأى في صمود الشعب المصري خلال العدوان الثلاثي عام 1956 مثالاً في قدرة شعوب العالم الثالث على مواجهة الاستعمار بقوة السلاح. ولا شك أن الخطاب التاريخي لعبد الناصر خلال العدوان، من منبر جامع الأزهر، الذي أعرب فيه عن إعجابه بالمواطنين الذين حملوا السلاح وهبوا لمواجهة الغزاة في الإسماعيلية ألهم القائد الثوري الكوبي، وخصوصاً لدى تصدي الشعب الكوبي للغزاة والاستخبارات الأميركية التي كانت تسلحهم وتدعمهم في خليج الخنازير عام 1961. ولم يتوقّف تأييد «الكومندانتيه» لقضايانا العربية العادلة، ودعمه لحركات المقاومة العربيّة. إن فيديل كاسترو، وبالرغم من المرض والشيب والتعب، استمر في النضال الذي كان قد بدأه في منتصف القرن الماضي حتى آخر نفَس.