مع تفاقم الأزمة الأوكرانية وكثرة الحديث عن خطر التسرّب الإشعاعي، بفعل ازدياد الأعمال الحربية قرب المنشآت النووية الموجودة في أوكرانيا، والتي تمتلك أوكرانيا أربعاً منها تحوي 15 مفاعلاً، من بينها تشرنوبيل الذي أدى انفجاره في ثمانينيات القرن الماضي إلى مآسٍ لا تزال حاضرة في الذاكرة الإنسانية والكتابات الروائية، بدأت دول أوروبية أخيراً بتأمين أقراص يوديد البوتاسيوم (potassium iodide) لمواطنيها.
اليوديد يحمي الغدة الدرقية (thyroid) من الإصابة بالسرطان الذي يسببه التعرض للإشعاع عند حصول تسرب نووي، إذ إن حاجة الغدة الدرقية الموجودة في الجزء السفلي الأمامي من الرقبة بقياس لا يتجاوز 5 سنتم، إلى اليود لإتمام وظائفها تجعلها الأكثر عرضة في الجسم لليود المُشِع الناتج عن النشاط النووي.

ولأنه لا يمكن لجسمنا إنتاج اليود بنفسه، علينا تناوله لإتمام عمل الغدة الدرقية في إنتاج الهرمونات التي تتحكّم في العديد من وظائف الجسم، بما في ذلك نمو الدماغ. تؤخذ حبوب يوديد البوتاسيوم قبل التعرض للإشعاع النووي أو بعده بفترة قصيرة، ومن شأن ذلك أن يشبع الغدة بهذه المادة فيمنعها من امتصاص اليود المشعّ ليقلل بالتالي من مخاطر الإصابة بسرطان الغدة.

بكلام آخر، إذا أعطي اليود «النظيف» الكافي في الوقت المناسب، لن «تتسع» الغدة الدرقية لـ«اليود المشع الملوّث» وبالتالي ستتخلص منه الكلى فلا يبقى في الجسم ليتسبب بالسرطان.

مع التقدم بالعمر، تنكمش الغدة الدرقية وتزحل نحو أسفل الرقبة كما ينخفض مستوى عملها وامتصاصها لليود. لذلك، يُستثنى من هم فوق الأربعين من هذا الإجراء بالكامل كونه لا يؤثر إيجاباً في هذه الحالة، بل يؤدي فقط إلى أعراض جانبية، تتنوع ما بين التهاب الغدد اللعابية، والغثيان والطفح الجلدي، والاضطراب المعوي الشديد وأمراض الحساسية.

وعطفاً على ذلك، يُحذَّر من ضرر الاستخدام العشوائي للمنتجات التي تحتوي على اليوديد كإجراء احترازي لأن الغدة الدرقية تخزن اليود لفتره محدودة. كما أن هذه الاستراتيجية ليست ترياقاً نهائياً للإشعاع، ولكنها أفضل الممكن للحماية من اليود المشعّ.

ماذا عن باقي النظائر المشعّة؟

اليود ليس وحيداً بين العناصر المشعّة التي يمكن أن تنتج عن الانشطار الذري. وبينما يمكن للجسم استعمال نويدات مشعة بدلاً عن الكالسيوم في نقي العظم لتكوين خلايا دم جديدة، بالتالي تخرج هذه العملية عن السيطرة لتسبب سرطان الدم (لوكيميا). أضف إلى ذلك، أن أضراراً جسيمة يمكن أن تلحق بالمواد الجينية عند تعرضنا للإشعاعات مع ما يترافق معها من سرطانات وتشوّهات خلقية في الأجيال اللاحقة.

كل ذلك حدث بعد إلقاء القنابل الذرية على مدينتَي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ولد من بعدها الكثير من الأطفال المشوّهين.

وفيما تُعَد شدة التلوث بالمواد المشعّة ومدة التعرض لها عاملَين حاسمَين لفرص البقاء على قيد الحياة، من الضروري وللتخفيف من حالة اندماج المواد المشعة في جسم الإنسان، غسل المناطق المتعرضة للإشعاع بالماء العادي ورغوة الصابون لتفادي العواقب.

وفي ظل الجنون الكلي الذي يعيشه العالم، فإن تكرار المأساة ما عاد ضرباً من ضروب الخيال العلمي بل حقيقة مرعبة لكل شعوب الأرض. لا مكان بمنأى عن الإشعاعات النووية القادرة على نقل الموت البطيء آلاف الكيلومترات بعيداً عن مركز انتشارها. إن كابوس الانفلات النووي هو سيناريو أبوكاليبتي مكتمل المعالم لنهاية التاريخ.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية، منسّق برنامج الماستر في علم المناعة