أزمة الأفيونات أو ما يُعرف بالـopioid crisis هي إحدى أضخم الأزمات التي تفتك بالمجتمع الأميركي. الأفيونات هي عائلة من المركّبات الطبّيّة المُستخلصة من نبتة خشخاش الأفيون (opium poppy)، وتضمّ مواد كالهيروين والفنتانيل، والتي لها استخدامات طبّيّة كمسكّنات للآلام الحادّة. يُمكن تلخيص أزمة الأفيونات بأنّها أزمة تجارة مخدّرات، وأزمة تعاطٍ، وأزمة ارتفاع حادّ، خصوصاً أواخر التسعينيّات ومطلع القرن الـ21، لأعداد الذين يُتوفّون بجرعات زائدة من هذه المواد. (بين عامي 2000 و2019 فقط، قُدّر عدد المتوفّين بسبب جرعة زائدة من الأفيونات بحوالى نصف مليون شخص، ناهيك عن ملايين المُدمنين عليها).
كثيراً ما يكون الحديث عن أزمة الأفيون كما لو كانت وباءً طرأ فجأةً وينبغي التعامل معه، أو كأنّه ظهر فجأة أنّ المسؤولين عنها هم تجّار المخدّرات والمدمنين على هذه المواد. ولكن ماذا لو كانت هذه الأزمة مُفتعلة بقرار؟ وماذا لو بدأت هذه الأزمة بجريمة؟ بهذا السؤال الأخير افتتح المخرج ألكس غيبني فيلمه الوثائقيّ الذي نُشر عبر «HBO» في أيار من هذا العام (2021) تحت عنوان جريمة القرن (The Crime of the Century). يتألّف الوثائقي من حلقتين ويتناول باستفاضة دور شركات الأدوية في «صناعة» ما صار يُعرف بأزمة الأفيونات.

البداية
عام 1952، قام الأخوة الأطبّاء الثلاثة من عائلة ساكلر بشراء شركة «بردو فريدريك» (Purdue Frederick) للأدوية بعد ملاحظتهم، أثناء مزاولتهم للطبّ، مدى قدرتهم على إنتاج الأرباح في هذا الحقل. بعد سنوات طويلة من إنتاج وبيع مجموعة من الأدوية العاديّة كشراب السعال أو أدوية الحساسيّة، وقعت عائلة ساكلر على فرصة العمر من خلال مركّب دوائي يدعى oxycodone. الأكسيكودون هو أحد المركّبات من عائلة الأفيونات، ويمكن استخدامه لتسكين الألم. نظراً لكونه من الأفيونات، فإنّ فعاليّته تتجاوز بشكلٍ كبير فعاليّة المُسكّنات الأخرى. ولكن، كونه من الأفيونات أيضاً، فإنّ ذلك يعني أنّه يمكن أن يؤدّي إلى التعاطي والإدمان بسهولة.

(Unsplash)

ما طوّرته هذه الشركة من خلال المركّب التسويقي (Oxycontin) هو أنّها جعلته يعتمد تقنيّة الإطلاق المتواصل (ـcontinuous release)، ما يعني أنّ جرعة الدواء التي يتناولها المريض لا يمتصّها جسمه دفعةً واحدة كما هو الأمر عند تلقّي الجرعة عبر إبرة في أحد الأوردة مثلاً، بل يمتصّها الجسد تدريجيّاً على مدى عددٍ من الساعات. استغلّت الشركة هذه الخاصّيّة من أجل التلاعب بالمعلومات وتسويق هذا الدواء.
ولكن كان على الشركة اجتياز مجموعة كبيرة من العقبات كي تتحوّل هذه الفكرة إلى مشروع يدرّ الأرباح.

عقبة تشريع الدواء
أوّلاً، كان عليها اجتياز أهمّ عقبة وأصعبها، وهي حيازة موافقة إدارة الأغذية والأدوية في الولايات المتّحدة الأميريكيّة (FDA). والإدارة لا توافق على التركيبة نفسها فحسب، بل ينبغي أن توافق على الحالات التي يُسمح للأطبّاء وصف هذا الدواء لها. كانت «بردو» تخشى أن تقتصر الفئات التي يُسمح لها بالحصول على هذا الدواء على مرضى السرطان في المراحل الأخيرة بهدف التخفيف من الآلام المستعصية، إضافةً إلى حالات محدودة مرتبطة ببعض العمليّات الجراحيّة. ما يعني أنّ الدواء لن يكون مربحاً لأنّ تسويقه بشكل واسع غير ممكن. توقّعت الشركة هذه العقبة ولذلك حاكت خطّةً متقنة من أجل ضمان موافقة إدارة الأغذية والأدوية على هذا الدواء لأوسع شريحة ممكنة من المرضى.

مع العلم أنّ الشركة لم يكن لديها آنذاك معلومات حول سلامة هذ الدواء، سعت «بردو» إلى تلقّي مساعدة من داخل إدارة الأغذية والأدوية من أجل ضمان الموافقة على مركّبها. لذلك، جنّدت الشركة أحد الأطبّاء المُراجعين في «FDA»، كيرتس رايت، وهو أحد الموجودين في اللجان التي تطّلع على طلبات التقديم وتوافق عليها. التقى رايت بعدد من مدراء «بردو» على مدى أسابيع، وعملوا معاً على صوغ طلب التقديم بطريقة تضمن الموافقة على وصف هذا الدواء «للآلام المتوسّطة والشديدة».

أحد أخطر الجمل الموجودة في هذا الطلب حول خطر تعاطي هذا الدواء هي أنّ الشركة «تعتقد» أنّ تقنيّة «الإطلاق المستمرّ» (continuous release) قد تخفّف من عبء سوء استخدام هذا المركّب. هذا «الاعتقاد»، الذي لم يكن مبنيّاً على أيّ دراسة أو ورقة بحثيّة، ولم يكن يعكس الاعتقاد الحقيقي لدى مدراء الشركة، هو الذي بدأ أزمة الأفيونات في الولايات المتّحدة.

تمّت الموافقة على الطلب من قِبل كيرتس رايت وآخرين في اللجنة في «FDA»، وبدأت «بردو» بإنتاج وتوزيع دواء الـoxycontin. ولاحقاً، بعد استقالته من منصبه في إدارة الأغذية والأدوية، عُيّن كيرتس رايت في «بردو» وتلقّى أحد أعلى الرواتب في الشركة.

عقبة الوصفات الطبّيّة
بعد اجتياز عقبة تشريع الدواء نفسه، كان على الشركة اجتياز عقبة أخرى. بشكلٍ عام، كان هنالك تخوّف طبّيّ من وصف الأفيونات للمرضى العاديّين الذين يعانون من آلام مزمنة. كان المتعارَف عليه بين الأطبّاء هو أنّ الفئات التي يجب أن تتناول الأفيونات لتسكين الألم تقتصر على مرضى السرطان في المراحل الأخيرة؛ لأنّ احتمال الإدمان ضئيل وفوائد الأفيونات تتجاوز مخاطرها، وكذلك على المرضى في المستشفيات الذين يحتاجونها لفترة قصيرة ريثما يتحسّنون. من هنا، أخذت الشركة على عاتقها تغيير هذه الثقافة قدر المستطاع من أجل تشجيع الأطبّاء على وصف هذه الأدوية وبالتالي زيادة إنتاج وأرباح الشركة.

نظّمت الشركة دورات تدريبيّة مكثّفة لجميع مندوبي المبيعات الذين يقصدون عيادات الأطبّاء لإقناعهم بوصف هذا المركّب، وحرصت على ترقية كلّ المندوبين الذين يقنعون أكبر عدد من الأطبّاء. أمّا عن محتوى هذا التدريب وما يقوم به المندوبون أنفسهم، فيضمّ ما هو قانونيّ كعرض المعلومات والشرائط المسجّلة التي تضمّ شهادات مرضى استفادوا من هذه الأدوية، وما هو «رماديّ» من الناحية القانونيّة كعرض معلومات مجتزأة أو إقامة حفلات ضخمة «لتشجيع» الأطبّاء على كتابة الوصفات الطبّيّة، وما هو غير قانونيّ نهائيّاً كتقديم الرشاوى المباشرة أو خدمات أخرى للأطبّاء مقابل وصفهم لهذه الأدوية.

إضافةً إلى ذلك، كانت الشركة تنظّم ندوات «ثقافيّة» عن أهمّيّة الأفيونات عبر شركات تعليميّة وسيطة كي لا تقع في فخّ «تمويل المحاضرات الطبّيّة». بحسب آنا ليمبكي، المديرة الطبّيّة لقسم الإدمان في جامعة ستانفورد، فإنّ ما حصل في هذه الفترة هو نقلة نوعيّة في النظرة إلى «الألم» وكيفيّة التعامل معه. بل وأكثر من ذلك، تشير ليمبكي إلى أنّ الثقاقة التي أصبحت سائدة، بفعل كثافة الدعاية التسويقيّة للأفيونات، هو أنّك طبيبٌ سيّئ إن لم تقم بوصف الأفيونات لإراحة مرضاك، وأنّ عليك تجاوز «رهاب الأفيونات» (opiophobia).

العقبات اللاحقة
مع الوقت، وبينما كانت الشركة تراكم أرباحاً خياليّة تُقدّر بتسعة مليارات دولار سنويّاً من هذا الدواء، كانت أزمة الأفيونات تتفاقم بشكل كبير. حتّى إنّ هذه الشركة، من حيث تدري أو لا تدري، خلقت زبائن جدداً لسوق المخدّرات غير المشروعة، وهم أولئك الذين أدمنوا على هذه المسكّنات ولم يعودوا قادرين على الحصول عليها بالكمّيّة أو السهولة ذاتها، فصاروا يتوجّهون إلى تجّار المخدّرات، أو يصبحون تجّار مخدّرات أنفسهم لتلبية حاجاتهم من هذه المواد وجمع بعض المال في الوقت نفسه.

لاحظ كثيرون من أطبّاء وقانونيّين وصحافيّين هذه المشكلة، فبدأت الدعاوى والدعاية السلبيّة تزداد حول «بردو»، ما شكّل عقبات جديدة أمامها. بهدف حماية صورتها أمام الرأي العام، عيّنت الشركة العمدة السابق لنيويورك، رودي جولياني (وهو أحد المحبوبين لدى الشعب الأميركي نظراً إلى كونه عمدة نيويورك أثناء أحداث 11 أيلول) كمسؤول عن الحملة الدعائيّة والإعلاميّة للشركة. ساهم هذا الأمر في تشتيت الرأي العام حول «بردو»، وخفض السلبيّة المحيطة بها.

أمّا من الناحية القانونيّة، فقد عمدت الشركة إلى استمالة المسؤولين القانونيّين في المناصب العليا، كمساعدة النائب العام والنائب العام للشعبة الجنائيّة أليس فيشر وبول ماكنولتي، من أجل تفادي محاكمة مدراء الشركة بعدما أظهرت الوثائق ورسائل الإيميل معرفتهم منذ عام 1996، أي بعد بضع سنوات على موافقة «FDA» على المركّب، أنّ هنالك شريحة كبيرة تسيء استعمال هذا الدواء. نجحت الشركة في تفادي هذا الأمر، ودفعت غرامة قدرها 34.5 مليون دولار بسبب «سوء الدعاية» التي صُنّفت كجنحة صغيرة (misdemeanor).

من يدفع الثمن؟
الأدوية لا تزال موجودة، بل إنّ ما فعلته «بردو» والنموذج الذي قدّمته من خلال سياساتها في «اجتياز» العقبات فتح باب استغلال الأفيونات على مصراعيه أمام الشركات الأخرى التي صارت تصنّع مصاصات من الأفيونات أو بخاخات الفنتانيل التي كان لها دورها في زيادة حدّة الأزمة التي تفاقمت بشكلٍ أوسع منذ بدء الوباء.

ويتناول غيبني في الحلقة الثانية من الوثائقيّ شركات أخرى مثل «إنسس» (Insys) انتهجت سياسات شبيهة وأكثر دهاءً من «بردو». المحاسبة القانونيّة قائمة، لكنّها مقتصرة على المدمنين، وتجّار المخدّرات، وبعض الأطبّاء الذين يكتبون وصفات بالأفيونات لأي كان. أمّا صانعو هذه الأزمة، فلن يمسّهم سوء في أبراجهم الزجاجيّة التي تعزلهم عن الكلفة الإنسانيّة لجرائمهم. من يدفع ثمن هذه «الأزمة» فعلاً هم ضحايا الإدمان وأسرهم، من الذين تتلوّث حياتهم بهذه الأدوية، أو الذين تنتهي حياتهم بسببها.

والمشكلة في الحقيقة في مستوى آخر؛ «الأزمة» الحقيقيّة هي في النظام والسياسات التي تتيح لأصحاب رؤوس الأموال أن يخلقوا «أزمات» كبرى وخطرة من أجل مضاعفة أرباحهم، ومن ثمّ يستخدمون فتاتاً من هذه الأرباح لتجاوز العقبات التي تعترضهم، بينما يحاول الناس النجاة من أزمة تلو الأخرى.