من إعادة فتح الشركات في النمسا، إلى إعادة الأطفال إلى المدارس في ألمانيا والدنمارك، بدأت غالبية الدول الأوروبية بتخفيف القيود التي فُرضت للحدّ من تفشّي وباء «كوفيد 19». حتى الدول التي تأثّرت بشدة، قرّرت رفع بعض القيود، وسط تساؤلات عديدة عن القرار وتأثيراته، ولا سيّما مع استمرار عدّاد «كورونا» في حصد الضحايا. ومع تخطّي القارة عتبة المليون إصابة والـ100 ألف وفاة، تواظب المفوضية الأوروبية ومنظمة الصحة العالمية على التحذير من التسرّع في اتخاذ قرارات مماثلة، آخرها كان تصريح «المنظمة» الأسبوع الماضي، بعدما أعلنت الدول الأوروبية نيّتها رفع الحظر، فاعتبرت أنّ أوروبا لا تزال «في عين الإعصار». الأسبوع الماضي، اعتبرت منظمة الصحة أنّ «العالم يقف على منعطف»، وأوصت برفع إجراءات العزل بشكل تدريجي إلى حدّ كبير، لتجنّب موجة ثانية من الإصابات. بدورها، أقرّت المفوضية الأوروبية بأنّ تخفيف القيود «سيؤدي حتماً إلى زيادة مقابلة في الحالات الجديدة»، مضيفةً أنّ «جميع الإجراءات يجب أن تكون تدريجية ومنسقة»، فيما دعا الاتحاد الأوروبي إلى «توخّي الحذر والتعاون قبل اتخاذ أي خطوات لتخفيف عمليات الإغلاق». ولكنّ الحكومات ماضية في تنفيذ ما تراه مُناسباً لاقتصادها، وتتصرّف بشكل فردي.
يقول رئيس البعثة الأوروبية في لبنان، رالف طرّاف، في حديث مع «الأخبار»، إنّ أوروبا «لا تزال في وضح المواجهة مع الفيروس»، مُعتبراً أنّ التدابير التي اتخذتها الدول «كانت تكلفتها عالية على الناس والاقتصاد، ولا يمكن الاستمرار على هذا النحو حتى نهاية الوباء».
ويلفت طرّاف إلى ضرورة «الالتزام بنهج أوروبي» جامع. فصحيح أنّ التوقيت والطرائق المعتمدة لرفع قيود الحجر تختلف بين الدول الأعضاء، ولكن «نحن بحاجةٍ إلى إطار عمل مشترك يرتكز على الأمور التالية:
- صحة عامة ترتكز على أسس علمية بشكل محوري، إذ إنّ رفع قيود الحجر يجب أن تأخذ بعين الاعتبار التوازن القائم بين الصحة العامة والتأثيرات على الواقعين الاجتماعي والاقتصادي.
- التنسيق بين الدول الأعضاء لتفادي أي تأثيرات سلبية، ما يُمثّل مصلحة أوروبية مشتركة.
- الاحترام والتضامن. وهما من الأمور الضرورية عند تناول المواضيع الصحية والاقتصادية والاجتماعية. لذلك، وبحدٍّ أدنى، يجب أن تقوم الدول الأعضاء بإخطار بعضها بعضاً وبعثاتها قبل رفع قيود الحجر مع أخذ وجهات نظرها واعتباراتها في الحسبان.
وبشأن الإجراءات المعتمدة خلال تحديد مراحل رفع قيود الحجر، يشير رئيس البعثة الأوروبية في لبنان إلى «ضرورة جمع معلومات متوالفة وتطوير نظام متين لإعداد التقارير ومتابعة جهات الاتصال بما يتضمن المعدات الرقمية التي تحترم الخصوصية في التعامل مع المعلومات المجموعة، والتوسّع في عملية إجراء الفحوصات وتطوير الموارد المعتمدة في منهجيات الفحص، وتطوير موارد وقدرات أنظمة الرعاية الصحية الوطنية، وبالتحديد التركيز على الارتفاع المتوقع في نسبة الإصابات الجديدة بعد رفع قيود الحجر، والمتابعة في عملية تطوير معدات الحماية الشخصية، إضافة إلى تطوير الأدوية وطرق العلاج الآمنة والناجعة، والمتابعة السريعة لعملية طرح لقاح لوضح حد للجائحة».

تباين الاستراتيجيات
عند الاطلاع على خطط كل دولة، يظهر التباين في كيفية اختيار رفع الحظر. على سبيل المثال، عندما اتجهت إيطاليا لفتح متاجر الكتب والأدوات المكتبية ومحال ملابس الأطفال، ظلّت هذه المتاجر مغلقة في إسبانيا حتى الـ26 من الشهر الجاري. وبينما عاد موظفو المصانع الإسبانية إلى العمل، فإنّ المصانع الإيطالية (باستثناء مصانع الأدوية ومصانع تجهيز الأغذية) مغلقة. ارتداء الأقنعة خارج المنزل أمر ضروري في جمهورية التشيك، ولكنّه ليس ضرورياً في الدنمارك.
ظهرت فجوة مماثلة في الاستراتيجيات بين النمسا والدول الاسكندنافية، إذ تعطي فيينا الأولوية لافتتاح متاجر غير أساسية، بينما لمّحت إلى أنّ المدارس ممكن أن تظل مغلقة حتى شهر أيلول/ سبتمبر المقبل. ومع ذلك، فإن دولاً مثل النرويج والدنمارك بدأت بإرسال الطلاب - حتى الفئات العمرية الصغيرة - إلى المدارس هذا الشهر. يرى المسؤول في وزارة الشؤون الاجتماعية في النمسا، كليمنس مارتن أوير، أن «الدنمارك تفعل ذلك بشكل مختلف عن النمسا، لأنّ ذلك قد يتسبب لدينا في ازدحام وسائل النقل العام».
يبقى أنّ المحرّك الرئيسي لهذه التباينات هو الهمّ الاقتصادي. كلّ الحكومات الأوروبية تخشى التبعات المترتبة على الاقتصادات الوطنية وسط الخوف من تكرار مشاهد «الكساد العظيم» الذي وقع في الـ1929، كما تُحذّر المؤسسات الدولية المعنية، ولا سيّما مع توقع صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد العالمي بنسبة 3% في عام 2020 نتيجة الوباء، وهو انكماش أسوأ بكثير ممّا كان عليه الأمر خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008. من هذا المنطلق، يُحذّر الأكاديمي في جامعة لندن للاقتصاد، أندريا جيلوتي، من أنّه «إذا لم تكن هناك استراتيجية مناسبة قبل رفع الحظر في أوروبا، فمن المرجّح أن ينتشر الفيروس مرة أخرى بنفس الوتيرة التي بدأ بها الانتشار. في هذه الحالة، سنعود إلى كل التدابير التي نقوم بها الآن».
طراف: يجب تطبيق الإجراءات تدريجياً، ورفع القيود على مراحل


السلطات وحدها التي تقرر
مع شروع أوروبا في التفكير في رفع القيود تدريجياً، برزت تباينات عديدة واختلفت الإجراءات بين بلد وآخر، ولكن الجامع المشترك بينها انفراد السلطات وحدها في إقرار الإجراءات، مستبعدةً آراء غالبية أطياف المجتمعات المدنية فيها. يقول الباحث الفرنسي في «المركز الوطني للبحوث العلمية»، فريديريك لوردون، في مقالة نشرها موقع الدورية الشهرية «لوموند ديبلوماتيك»، إنّه «طبعاً، هناك بدايةً المعاناة الجسدية (لأولئك الذي أصابهم المرض)، المعاناة النفسية (لدى أقربائهم ولدى العاملين في مجال الرعاية الصحية)، المعاناة النفسية (لدى متلقّي الأجور). ولكن هناك أيضاً، لدى كثر آخرين، المعاناة السياسية: مشاهدة هذا الجنون وسط العجز عن فعل أي شيء». ينتقد لوردون تحديداً الواقع الفرنسي، ولكن ينطلق منه ليُخبر أنّ «السياسة تقوم أيضاً بوجود المجموعات التي بإمكانها التعبير عن ذاتها والفعل»، مضيفاً أنّ «تفشّي الوباء عطّل السياسة، لم يترك وجوداً إلا للحكومة التي تزدهر حين تنفصل عن المجتمع المدني».
المشترك الثاني بين الدول، يتمثّل في منع انطلاق موجة جديدة من الفيروس، عبر إنشاء نظام «اختبار وتتبّع»، يقوم على اختبار المصابين بالفيروس ثم تتبّع اللقاءات الأخيرة للشخص المُستهدف، إما عن طريق سؤاله أو باستخدام بيانات هاتفه المحمول. وهناك أيضاً إجماع على أنه يجب على المجتمعات إعادة فتح كل قسم على حدة، وسط انقسام حول الفئات العمرية أو القطاعات الصناعية التي يمكن إعادتها إلى العمل. ومن هنا، يعتبر المتخصّص في علم الأوبئة والأمراض المعدية في جامعة «ساوثهمبتون» البريطانية، نيك راكتنونشاي، أنّ «النهج المرحلي (في رفع القيود) يحظى بتأييد الكثير من الحكومات، لكن لا نعرف بالضبط نتائج هذا النهج، لذا يجب أن يكونوا حذرين قدر الإمكان».

الخطوات التالية
ما هي الخطوات التي يجب أن تأخذها الدول الأوروبية بعين الاعتبار مع رفع الحظر؟ يُجيب رئيس البعثة الأوروبية في لبنان، رالف طرّاف، بأنّه يجب تطبيق الإجراءات تدريجياً، ورفع القيود على مراحل، مع مراعاة فترة زمنية بين كل مرحلة وأخرى ليتسنى مراقبة وتقييم تأثير كل مرحلة. ويضيف أنه «يجب أن يتم استبدال الإجراءات العامة بأخرى تستهدفها عملية المراقبة والتقييم». وعن رفع قيود وحدود الحجر الداخلية، يلفت طراف إلى أنّه «يجب أن تكون منسّقة، خاصة تلك التي تتعلق برفع حظر السفر ومراقبة الحدود. ويُعاد فتح الحدود الخارجية في المرحلة الثانية مع الأخذ في الحسبان نسبة انتشار الفيروس خارج حدود الاتحاد الأوروبي».
اقتصادياً، يعتبر طراف أنّه يوجد العديد من الأعمال التي يمكن مزاولتها من جديد، في حال تعذّر ذلك عبر الاتصالات المتلفزة، فضلاً عن إعادة توزيع دوامات العمل، ويؤكّد طرّاف ضرورة «السماح للناس بالتجمّع تدريجياً مع الأخذ في الحسبان تصنيف الأنشطة، مثل المدارس والجامعات، والأعمال الحرة الخاصة (المفرق) تدريجياً إذا أمكن، والتجمعات الاجتماعية (المطاعم والمقاهي) تدريجياً إذا أمكن». يجب أن يحصل ذلك بالتزامن «مع وضع خطة للنهوض بالاقتصاد وإنعاشه خلال العملية التدريجية لرفع قيود الحجر من أجل العودة إلى سكة التنمية المستدامة بما يتضمن التوجه نحو بناء مجتمع رقمي أكثر خضرةَ مستفيدين من الدروس المستقاة من الأزمة الحالية».