لا شكّ بأن تغير المناخ يبشّر بعصر جيولوجي جديد، وذلك مردّه إلى استنفاد النظم البيئية والتلوث الكيميائي غير المنضبط. في خضم المناقشة التي يغذيها هاجس الأزمة البيئية، يعتقد البعض أننا لا نستطيع إنقاذ كل شيء. إن تغير المناخ يثير القلق والتوجس عند فئة من الناس وعند معظم علماء البيئة. ففي الوقت الذي نتابع فيه بأسى زلزال المغرب المدمّر، وهو الأكبر منذ قرن من الزمن حين ضرب مدينة فاس وعُدّ حينها بأنه «من أسوأ الكوارث الطبيعية في تاريخ المغرب» ها نحن قد شهدنا تعرض المغرب مساء الجمعة 9 أيلول 2023 لهزة أرضية مماثلة، عصفت بالبلاد وحصدت أرواحاً كثيرة.
من معرض جان رينيه «العودة إلى الكهف»، قصر «غارنييه».

في خضم متابعتي الحثيثة للأحداث، طالعني تجهيز فني عُرض في نفس اليوم، أي في 9 أيلول، في باريس، حمل عنوان «العودة إلى الكهف» للفنان المعاصر جان رينيه المعروف بـجي آر (J.R). وكأن مسألة المناخ والجيولوجيا هي مسألة كونية، كما أنها أيضاً أرض خصبة لتجديد الفكر حول العلاقة بين الإنسان ونظامه البيئي، بين المجتمع وبيئته، أو باختصار بين «الإنسان والطبيعة».

العودة إلى الكهف
المعرض هو استمرار لأعمال جي آر الفنية التي تقوم بشكل خاص على تركيب أعمال ضخمة من خلال الاستحواذ على المناطق المحيطة بمتحف اللوفر وساحة تروكاديرو في فرنسا، وواجهات قصر فارنيزي في روما وحتى قصر ستروزي في فلورنسا، ما يدعو المشاهد للإبحار في عالم من الألغاز من خلال التحوير في المنظور.
في تجهيزه الأخير «العودة إلى الكهف» ومن خلال الخداع البصري إشارة إلى الرموز الرومانسية للقرن التاسع عشر، بالإضافة إلى تصميم المسرح للأوبرا الملحمية، كمجموعات الأوبرا المسرحية الرائعة لبرليوز أو فاغنر، حيث تبدو العناصر المعمارية لنابليون الثالث عالقة في حركة زمنية مزدوجة الإيحاء. للوهلة الأولى، يبدو قصر «غارنييه» الذي يعود تاريخه إلى قرن من الزمن وكأنه في حالة خراب، فيتراءى لنا أن الآثار الباريسية هشّة مشكك في طابعها الأبدي كأن زلزالاً ألمّ بها، وفي نفس الوقت نرى عملاً في إعادة الإعمار الدائم، كما يتضح من السقالات العديدة الموجودة، في إشارة إلى العمل الحقيقي والضروري، الذي يدعم هذا التثبيت والنصب التذكاري فعلياً.
أثناء السير في شارع الأوبرا، الزوار مدعوون للانغماس في هذا الكون الجيولوجي الذي يستحضر أصول الأغنية والرقص في اليونان القديمة. حين كانت الاحتفالات حتى القرن السادس قبل الميلاد تقام للاحتفال بالآلهة في الكهوف، ومن خلال البناء انتقلت هذه الاحتفالات إلى المدن وولد المسرح.
يشجع تجهيز قصر «غارنييه» المتلقين على العودة إلى الرومانسية المستوحاة من العالم الطبيعي. فيدعوهم إلى الكهف والنظر إلى داخله، مستعينين برمز أفلاطون للكهف، وهو المكان الذي نعبره للخروج إلى المعرفة وفهم العالم.

منطق الكهوف وفلسفتها
أما عودة جي آر إلى الكهف هو من دون شك رمزية لكهف أفلاطون. الكهف الذي أورده الفيلسوف الإغريقي في كتاب «الجمهورية» يشرح فيه الثنائية القائمة بين عالم الحسّ وعالم المثل، من خلال فرضية وجود أشخاص مقيّدين، داخل كهف، مجبرين على مشاهدة الظلال أمامهم على الجدار، معتبرين أن هذه الظلال هي الحقيقة الخالصة، وحتى حين تتسنّى الحُرّيّة لأحدهم ويكون له أن يعرف أنّ كل ما في متناول أصحابه مجرّد وَهْم.. سيعود ليُخبرهم بما رأى، ولن يصدّقوه.
أراد الفنان الاستثمار في نظرية الكهف الأفلاطونيّ استثماراً متعدّد المستويات، بحيث تمّ إحياء الكهف من خلال عروض ستستمر على مدى أربع أمسيات، سيتم من خلالها تقديم مقتطفات من الأعمال الغنائية الراقصة المرتبطة بأوبرا باريس وستكون مفتوحة للجميع وواجهتها ستصبح مسرحها، مع العروض التي يمكن رؤيتها من الشارع.. أي أن المتلقين هم في أفق مفتوح على الحرية، فهل سيصدقون ما يحصل داخل هذا الكهف؟

جان رينيه موهبة تتعدى حدود التعبير
يحظى جان رينيه بشهرة واسعة النطاق باعتباره أستاذاً في فن الشارع المعاصر. برز إلى الواجهة في بداية القرن الحادي والعشرين، وحقق منذ ذلك الحين نجاحاً عالمياً بفضل مجموعاته الفوتوغرافية الضخمة التي حولت المساحات اليومية في المدينة إلى معارض فنية عامة. جمع بين الفن والنشاط العالمي بشكل نماذج للتعددية الثقافية والتواصل بين المجتمعات، فكسر الحاجز القائم بين الفنان والمشاهد من خلال إنشاء مشاريع فريدة ومبتكرة. بالإضافة إلى أعماله المجمّعة في الشوارع، فقد كان العقل المدبّر لتركيبات فنية عامة في التصوير الفوتوغرافي الخداعي في أماكن بارزة مثل نيويورك وباريس. هو فنان برتبة شخصية عامة رفيعة المستوى، حيث يظهر دائماً في المقابلات مرتدياً نظارته الشمسية السوداء الشهيرة وقبعة «فيدورا» الأنيقة.
كجزء من أعمال الترميم في قصر «غارنييه»، دعت أوبرا باريس الوطنية الفنان جي آر إلى تزيين السقالات التي تغطي هذا المعبد بالرقص والموسيقى، بحيث يمكن رؤية واجهة النصب التذكاري تتحول إلى صورة مشوهة، عبارة عن مدخل إلى كهف واسع ينفتح على ممر من الصخور والضوء.
وفي شهر نوفمبر، سيستكمل الفصل الثاني برحلة عبر ممر الذاكرة. ليتمّ تحويل مدخل الكهف مرة أخرى ممتداً على كامل واجهة الأوبرا، بحيث تختفي الهندسة المعمارية وتظهر على الجدران آثار بشرية، ما يستحضر لوحات الكهف التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ.
لماذا هذه العودة إلى عصور ما قبل التاريخ؟ هل ارتكب البشر بالفعل خطيئتهم الأصلية التي أخرجتهم من الحالة الطبيعية التي عاشوا فيها بعد العصر الحجري القديم؟ منذ ذلك الحين، هل استمرت الحضارة في الغرق في هاوية الهيمنة واقتلاع الجذور البشرية من ركيزتها الطبيعية؟
لقد راودتني هذه الأسئلة عقب حدوث الزلزال أثناء اطلاعي على عمل جي آر، وهو ليس مجرد ثمرة من الخيال، بل هي نتاج انعكاسات الفنان الناضجة، سواء كان يعبّر عن التزام سياسي أو اجتماعي لأسباب معاصرة أو بعيدة المدى. لا يولد أي شيء بالصدفة، بل يعطي معنى لكل شيء، فاستطاع أن يأسر جمهوراً كبيراً بما أنتجه من أعمال ضخمة في الهواء الطلق.
«المدينة أفضل معرض» هكذا يصفها منذ البداية، يستمتع جي آر بتأطير صوره على الجدران بعلبة من الطلاء، يقوم بغزو أسوار باريس ويقتحم الأماكن المختلفة عندما يشعر بالرغبة في ذلك.
ليت المشهد في المغرب كان خداعاً بصرياً. فالأزمة البيئية، إذا لم تعالج في المدى المنظور وبشكل جذري فستؤدي إلى تقليل الكثافة الاستوائية للمحيط الحيوي بشكل كبير بسبب النار والرياح والسموم، إلى درجة استحالة إعادة بناء عالم الأمس وحيث سيكون عالم الكهوف بانتظارنا. إنها رؤيا مفتوحة على أفق الاحتمالات ومن خلالها ندرك إحساسنا بذواتنا وبالحقيقة كأشياء مستقلة لا معنى لها. فإذا كانت الذات والحقيقة مرتبطتين فإنه ينبغي علينا كما يقول ريتشارد رورتي «أن نبقي المحادثة مستمرة».