مثل أي خبر عاجل يُذاع عبر التلفاز، تتبوأ المانشيت أعلى الشاشة بالتزامن مع البث المباشر. كادر الكاميرا مثبّت أمام فرعٍ من فروع مقهى «دانكن دونتس» فيما المراسل بصوته الرخيم ينقل لنا المجريات كما يراها مباشرةً. يقول حائراً: «هناك شيء ما يحدث في D&D (دانكن دونتس)». حالنا هي حال المُراسل. نحن نجهل ما يحدث، ومع ذلك، نتسمّر أمام الشاشة منتظرين انكشاف الحدث... ما إن تمر ثوانٍ معدودة حتى يظهر آل باتشينو وهو يدخل بحماسةٍ إلى مقهى «دانكن دونتس». بثقةٍ عارمة، يفتح باتشينو الباب بقوّة، وبمجرد أن يخطو خطوتين نحو الداخل حتى ينشده الجميع إزاء رؤيته. تصرخ عاملة المقهى والدهشة تعتري وجهها: !It’s Al Paccino (إنه آل باتشينو) ليصحّح لها بسرعة «ليس بعد الآن، فقد أصبحت دانك». يسأله النادل: «دانكتشينو؟» فيرد عليه: «لا ضير في ذلك». سيضفي وجود آل باتشينو بينهم الإثارة. العاملون نسوا أنهم يعملون، أما الزبائن فرقصوا فرحاً. يتحوّل الخبر الذي انتظرنا أن تفرج عنه الكاميرا وتريحنا من عدوى الحيرة التي نقلها لنا المُراسل، إلى أوركسترا هزلية يقودها باتشينو بطرحه سؤاله المتكرر: «ما اسمي؟» ليجاوبه الحاضرون بصوت واحدٍ وحماسةٍ مفعمة: «دانكتشينو» في كل مرةٍ يسأل فيها. سرعان ما سنجد أن الخبر العاجل الذي ننتظر الإفراج عنه قد تحوّل إلى عرض كوميدي. سننتبه أن الحدث الذي كنا ننتظر وقوعه وتلقّف خبره، ليس موجوداً، بل لم يكن موجوداً من الأساس إنما استبدل بدعايةٍ. الخبر العاجل، وهو الدالّ على خطر داهم مستجد، في الحالة هنا، يؤخذ كمطيّة لتمرير دعاية. ولكي يبلغ الهدف مرماه، فيجب الحفاظ على الأسلوب الشكلي الذي يفترضه الخبر ليكون خبراً عاجلاً، أي على سمات الغموض، والمفاجأة، ذلك بغية حث الإثارة فينا وزجنا في حالةٍ من الأسر. فعندما تكون محشوراً في الزاوية يكون إقناعك سهلاً.
(رسم: فرانسوا الدويهي)

الفقرة الآنفة تلك، التي تخص آل باتشينو والتي يلعب بطولتها، مأخوذة من مشهدٍ يندرج في واحد من أكثر الأفلام تفاهة في تاريخ السينما، وهو «Jack and Jill». الفيلم تلقّى نقداً مقذعاً من قبل النقاد إذ اعتبروا أن منتجهِ قد حوّل الكوميديا إلى تفاهة، وأن كوّة كبيرة تفصل بينه وبين الضحك ودوافعه. لكن راصد الأخبار، العاجلة منها على وجه الدقة، أي تلك التي تشي بشيء من الخطورة أو الغرابة، سينتبه أن في دعاية «دانكن دونتس» شيء من مناخات الخبر العاجل ما يمنع العين من إغفال النظر عنه. فالتحوّل الذي طال آل باتشينو لا يقتصر عليه فحسب، بل هو مستشرٍ، تفيض به ظاهرة «دانكن دونتس». أما الشبه بين الخبر العاجل و«دانكن دونتس» لا يقوم على السرعة، أي على المعلومة السريعة التي توازيها القهوة سريعة التحضير أو التقديم، إنما في التحوّل الذي يصيبنا جميعاً ولا ينفكّ منه أحد عندما تطأ قدماه هكذا مكان. منا من ينزلق في الشرك، ومنا من يخرج مصاباً بالغثيان.
إن الداخل إلى مقهى «دانكن دونتس»، وبمجرد أن يخطو خطوتين إلى الداخل، يتحوّل من «طالبٍ» يطلب منتجاً معيناً إلى مطلوبٍ لسلطة الدعاية والتماهي مع هوية المستهلك المبتذلة. كما عليه أيضاً، إثبات نفسه في امتحان اللغة الإنكليزية الشفهية، واجتياز شروط التفوّه التي تقتضيها، أي ما يُعرف باللكنة المحكية، وبقاموسهم الـ«accent» .تنتصر اللغة المستخدمة في «دانكن دونتس» على آل باتشينو كما تنتصر علينا جميعاً إبان زيارتنا أمكنة كتلك، مع فارق بسيط، أن باتشينو يُمثل، وهو يتلقى راتباً تجاه تمثيله، أما نحن فيُمثّل علينا، وندفع ثمن عرضٍ لم نشأ أن يكون لنا دور فيه. فلنترك آل باتشينو وشأنه الآن، وننصرف إلى موضوعنا.
إن العلاقة أساساً بين اللغة والكائن تحددها معطيات وشروط، كما ترسمها عوامل وأنظمة. يقول غرامشي ما معناه، إن الإنسان هو سياق تطوّري لا يعتريه الثبات. غرامشي وهو من الأوائل الذين انتقدوا أجهزة الهيمنة الثقافية، كان يعلم أن الخطاب اللغوي لا يحدده الإنسان بشكل عام إنما هو انعكاس لآليات وأنماط الإنتاج المتحكّمة بالمجتمع، أي الرأسمالية في مجتمع اليوم. هنا لا بد من الاستدارة نحو الناطقيّة، أي اللغة الشفويّة السائدة. فالأخيرة محكومة بالنسق الرأسمالي، بالتالي هي مشذّبة، تحيل الإنسان عندما يمارسها إلى قاموس محدد، بشروط وحدود من الصعب تجاوزها. وهذا يعني أن الإنسان ينطق باسم نمط الإنتاج المستحوذ عليه وبمفرداته. وهو أمر باستطاعته تحويله إلى روبوت يمارس اجتراراً مغيظاً لألفاظ ورموز محددة سابقاً من جهة المركز، أي المُهيمن. لذلك، يكون من النافع، الانتباه إلى تجليّات هذا الاستحكام في علاقات الإنسان، وفي كلماته أيضاً من أجل تعرية هذه الممارسات، التي تبدأ بفعل القول نفسه ولا تنتهي عنده لأن اللغة أبعد من المنطوق وأسلس من فنجان القهوة، وهي بالطبع، قادرة على تغيير حضارة بكاملها.
ومن المؤكد أنك، مثل باتشينو، التقيت في يومياتك بالكثير من روبوتات الرأسمالية، بنسختها الحالية، أي النيوليبرالية التي تدور في كل تفاصيلها حول الاستهلاك. يحدث ذلك عندما ارتدت «دانكن دونتس» مثلاً وقابلت النادل أو «الوايتر» هناك. وأقصد بـ «الوايتر» الروبوت المفوّه الذي يعرف من أين تؤكل الكتف. الرجل الذي تقف أمامه بعد أن يحين دورك لكي تطلب «فنجان قهوة» كما اعتدت أن تفعل في المقاهي الصغيرة، فيرهقك بأسئلته بطريقة ترهيبية وكأنه يضع مسدّساً في رأسك: «أستاذ، هل تريد مشروباً ساخناً أو بارداً؟ ما رأيك بالفرابوتشينو؟ يمكنك أخذ كافيه ماكياتو إذا أردت؟ هل تريد إضافة الكريمة؟ كاراميل؟ More Sugar؟ وما رأيك ببعض الـNuts ؟» حتى تكاد تشعر أن قهوتك ستجعل منك إنساناً يمثّل «روح هذا العصر» إن زدت عليها واحدة من هذه الإضافات. والحذاقة لا تتوقف هنا بل ترزح نحو البداهة حيث يفضل النادل أن يستعيض بمفردة مثل «شلمونة» ويستبدلها ب «straw» ذلك أن الأخيرة جذابة أكثر وحداثية، فتستعجل بالإجابة بعد أن يعتريك الغباء: «نعم نعم، straw بليز». ولكن تذكر، مهما أكثرت من وضع السكر في الكوب سيبقى طعم المرارة في فمك.
في مواقف كتلك تشعر أنك عارٍ وسط الحشود التي تنتظر دورها خلفك. تشعر أن الآذان على الطاولات المجاورة تصغي إليك، كما أنك تشعر بحرارة عينيه وهي تحملق بك، فتنتبه أنك تحوّلت فجأة إلى شخصيّة هاربة من روايات سارتر وحطت رحالها في «دانكن دونتس» بالخطأ. وينجح نادل «دانكن دونتس» بحذلقته بأخذك رهينة بعد أن أدخلك في مشهديّة فيها من التشويق ما يلامس التهديد وعنوانها الهيمنة. هيمنة اللغة المنطوقة، وتلك المتمظهرة في سلوكه الاندفاعي، وهو سلوك يوازي، بحركته الهجومية، ما تتعرض له الأسهم في لعبة العرض والطلب في أسواق البورصة. فأنت في موقفك أمام«الوايتر» لم تعد تملك إرادتك إلا بشكل سلبي، وإرادتك مقصية. لم يعد من الممكن أيضاً بسبب خجلك، ولهابة الموقف الذي أنت بصدده أن تقود نفسك خارج الإذعان والقبول. يهيمن عليك كما تهيمن مؤسسته علينا: في الاستحواذ، لغوياً وسلطويّاً، بتعمّدها على تشكيل ثقافة، وفرض لهجة، وإسقاط لغة على مجتمعات لها قواميسها الخاصة. هي لا تمانع من تحويل ممثل درامي يتلاعب بالعصابات ويلعب معهم مثل آل باتشينو، إلى أبله يصرخ كلّما سُئل عن اسمه، فقط لتُحاكي المستهلك وتجذب المزيد من المستهلكين على منتجاتٍ تقدمها.
يقول ابن حزم الأندلسي في «طوق الحمامة» إنه ينبغي الحذر الشديد من الرسول عندما يتعلق الأمر بالحب. إذ إن تتبع القصص والأساطير التي تحوي رسولاً للحب، ينتحي بك، غالباً، لحقيقة ارتكاب الرسول للخيانة، وإيقاع المحبوب في شركها، لقدرته على التلاعب بالتراكيب اللغوية لتقديم الشكل الأكثر إغراءً لإحداث التواء في ملامح المهمَّة. وهنا يمكن انتزاع الشراكة في فعل الخيانة المتخفية خلف القول المنمّق بين رسول الحب ورسول الرأسماليّة. فرسول الرأسمالية هذا، أي «الوايتر»، مستعد لخيانة طبقته، بل ولإشراكك في فعل الخيانة هذا. مهمته تقتضي التخفي والخداع، واستخدام حيل الألفاظ والتعابير اللطيفة والابتسامات الزائفة لأن منتوجه الجديد ليس بجديدٍ، وهو ليس شراباً إنما هو أنت، في تحويلك إلى دانكتشينو آخر.