«لا أحد يعلم كمية النفايات البلاستيكية غير المعاد تدويرها التي ينتهي بها المطاف في المحيطات، البُؤرة الأخيرة للأرض»، حيث تتجمّع النفايات. الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا الإطار ليست قليلة، وخصوصاً لناحية الجهل شبه التام حول طبيعة الملوثات البلاستيكية وتأثيرها السلبي على البيئة. لكن الإجابة عنها تستدعي «نكء» المخاطر الكبرى للتلوث البلاستيكي، التي تتهدّد المحيطات والأنظمة البيئيّة البحريّة، فضلاً عن تداعياتها على مجمل الكائنات الحية. فلنقل إن «بادرة» التوعية عموماً بدأتها مجلّة «ناشونال جيوغرافيك» التي أفردت تقريراً مفصّلاً، تصدّر غلاف عددها الأخير الذي نُشر أمس.
زجاجات بلاستيكية تخنق نافورة سيبيليس، بالقرب من مبنى البلدية في وسط مدريد، حيث قامت مجموعة Luzinterruptus الفنية بملء هذه النافورة واثنتين أخريين في المدينة بـ60 ألف زجاجة (غير قابلة لإعادة الاستخدام)

البلاستيك «يستوطن» المحيطات
بالأرقام والإحصاءات والصور، وثّقت المجلّة في عدد من المقالات المُدرجة ضمن ملفّ شامل بعنوان «كوكب أم بلاستيك؟»، الآثار والمخاطر الناجمة عن البلاستيك، الذي لم تستطع البيئة التكيّف معه ولا تحليله لإعادة دمجه بنجاح في النظام البيئي. لكن اللافت في التحقيق الأول، هو ارتكاز الكاتب في البناء السردي على تجارب وأبحاث عالم الكيمياء البحرية والإيكولوجي، ريتشارد طومسون (54 عاماً)، حول التلوث الناجم عما يعرف بـ«الجسيمات البلاستيكية الدقيقة». وبمعنى أوضح، فإن أهمية ما يبرزه التقرير تكتنز في الدخول - للمرة الأولى ربّما - إلى عمق المشكلة، ألا وهي التركيز على الجسيمات الصغيرة (أصغر من خمسة مليمترات، وتعرف باسم حبيبات البلاستيك المتناهية الصغر) وعلى آثارها، كونها جسيمات كيميائية غير قابلة للتحلّل. طومسون الذي اجترح في عام 2004 تسمية «جزيئات بلاستيكية» كمصطلح أدقّ، نشر نهاية خريف2017 دراسة تفترض أن الكائنات البحرية، والأسماك منها خصوصاً، تقتات تلك الجزيئات، والتي تتحلل بفعل الأشعة فوق البنفسجية الصادرة من الشمس، ونتيجة تفاعلها مع الوسط المالح للمحيطات. بيد أن المخاوف الأكبر المطروحة في الدراسة تتعلق بـ«الأشياء التي لا يمكن لأي منّا أن يراها»، أي «المواد الكيميائية المضافة إلى البلاستيك والتي تضفي عليها خصائص مرغوبة، مثل القدرة على التحمل، الطبقات النانوية الأصغر، حتى تلك التي من المفترض أن تظهر نتيجةً لتتحلل الجزيئات». المخاوف تتلخّص، إذاً، في أن تمرّ تلك المواد الكيميائية «المجهولة» تماماًَ في أنسجة الأسماك، ومنها نحو أنسجة البشر!
وبالارتكاز إلى دراسات عدة، ينقل التقرير تقديرات تفيد بأن المواد البلاستيكية الموجودة في المحيطات «تقتل ملايين الكائنات البحرية كل عام». كما أن ما يقرب من 700 نوع منها، بما في ذلك الأنواع المهددة بالانقراض، تأثرت بها. والدليل على تعرض تلك الكائنات للأذى بشكلٍ مباشر يتجلّى في نفوق أسماك عُثر عليها عالقة بشباك صيد مهجورة، فضلاً عن التغيرات الفيزيائية التي أصابتها نتيجة تعرضها لمواد ملوِّثة.
في المياه الملوثة قبالة جزيرة سومباوا الإندونيسية، «صورة كنت أتمنى ألّا تكون موجودة»، يقول المصور جاستن هوفمان (راندي أولسن - ناشونال جيوغرافيك)

كيف وصلنا إلى هذه الحال؟
يقال إن البلاستيك يمثّل واحداً من انتصارات الكيمياء العضوية الكثيرة خلال القرن العشرين، على اعتبار أنه يحل في مجمل الصناعات كمواد خام أو كمكون وسيط في الصناعة أو في التعبئة والتغليف...
إلا أن تداعياته على النظم البيئية خلال مدة لا تتجاوز 50 عاماً، كانت كفيلة بتوصيفه كواحد من أخطر أنواع التلوث ضرراًَ على البيئة قبل الإنسان. فعدم تحلل المواد البلاستيكية يعني تكدّسها وإضرارها بالعديد من الكائنات الحية. وهنا، يطرح تقرير المجلة سؤالاً موجباً: «متى ظهر الجانب المظلم لمعجزة البلاستيك للمرة الأولى؟». الإجابة عن السؤال، الذي «يمكن طرحه حول العديد من روائع عالمنا التكنولوجي»، تستوجب العودة بالزمن إلى بعض الأحداث المفصلية التي استدعت، مثلاً، صناعة المظلات المصنوعة من النايلون أو أجزاء الطائرات الخفيفة الوزن. ونذكر منها ضرورة «الفوز بالحرب العالمية الثانية». صحيح أن المواد البلاستيكية غيّرت حينذاك حياة البشرية، حيث لم يكن هناك سوى القليل من الاختراعات، ومعظمها للأفضل. حتى إنها سهّلت السفر إلى الفضاء وأحدثت ثورة في عالم الطب. بيد أن سكان العالم البالغ عددهم آنذاك 2.5 مليار شخص، والذين أنتجوا عام 1950 نحو 1.5 مليون طن من البلاستيك، تخطّى تعدادهم السبعة مليارات وأنتجوا العام الماضي، أكثر من 300 مليون طن من البلاستيك. وهذا يضيف الكثير لعدد الملوثات البلاستيكية التي تغرق كوكبنا بشكلٍ مستمر.
بعد غسل النفايات البلاستيكية الشفافة في نهر بوريغانغا في دكا (عاصمة بنغلاديش)، يصار إلى نشرها حتى تجف، قبل بيعها بهدف إعادة تدوريها (راندي أولسن - ناشونال جيوغرافيك)

«جانب» من الحلول
ما يبعث على الحزن هو أن أزمة النفايات البلاستيكية والاهتمام العالمي الكبير الذي حظيت به أخيراً، قد لا يثمر في حثّ الدول على بذل جهود جادة واتخاذ إجراءات عملية لمعالجتها وحصرها. ما يمكن تأكيده حتى الآن حول الحلول التي تلوح في الأفق، وفق التقرير، هو نبأ انضمام كينيا إلى قائمة متزايدة من الدول التي حظرت الأكياس البلاستيكية، وفرضت غرامات عالية على المصانع، وأن فرنسا اتخذت قراراً بحظر اللوحات والأكواب البلاستيكية بحلول عام 2020. وكما الحال في كينيا، تفرض إيرلندا ضرائب على أكياس البلاستيك، قدرها 22 سنتاً على كل كيس.
وفي بداية شباط/ فبراير 2017، أطلقت الأمم المتحدة للبيئة حملة عالمية غير مسبوقة للقضاء على المصادر الرئيسة للنفايات البحرية: الحبيبات الدقيقة المستخدمة في مستحضرات التجميل، والاستخدام المفرط والمسرف للبلاستيك الذي يستخدم لمرة واحدة، ولا سيما تلك الأكثر استخداماً على المستوى العالمي كالأكياس البلاستيكية، وأنابيب الامتصاص البلاستيكية (الشفاطة)، وعبوات المياه البلاستيكية. وقد انضم نحو عشرة بلدان بالفعل إلى الحملة بتعهدات كبيرة لتنظيف بحارها.
أكبر منشأة لإعادة تدوير البلاستيك في سان فرانسيسكو، تعيد تدوير ما بين 500 إلى 600 طن يومياً (راندي أولسن - ناشونال جيوغرافيك)

حملة «ناشونال جيوغرافيك» لتقليص الأضرار
الخبر السّار، وفق تقرير «ناشونال جيوغرافيك»، هو أنه يمكن التخفيف من تداعيات هذه الأزمة، وذلك من خلال مشاركة الدول والمنظمات والصحف والمجلات في الحملة الواسعة التي نظمتها المجلة بكل إصداراتها، تحت شعار «كوكب أم بلاستيك؟». وهذه الحملة التي ستستمر لسنوات عدة، «تهدف إلى تثقيف المستهلكين حول الأزمة وكيفية مساعدتهم في عكس آثار المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد»، والتي تستقر في محيطات الأرض والممرات المائية. حتى إنها أوعزت الى جميع شركائها الدوليين - «الذين نشروا 36 إصداراً محلياً لتقارير ناشونال جيوغرافيك بلغات عدة» - بالتخلص من الأغلفة البلاستيكية في إصداراتها الماغازينية بحلول نهاية عام 2019. واعتبرت المجلة أن بادرتها هي «مجرد خطوة أولى، نظراً الى أننا ملتزمون بالتأثير للحد من تنامي هذه الأزمة»، ولرفع مستوى الوعي وتشجيع المستهلكين على التصرف.


أنزيم آكل للبلاستيك
في آذار ونيسان الماضيين، تحدثت تقارير علمية صادرة في بريطانيا والولايات المتحدة عن تطوير بعض العلماء لـ«أنزيم» (Enzyme) يأكل البلاستيك، قد يساهم مستقبلاً في محاربة التلوث.
وفق نتائج الدراسات، يستطيع الأنزيم هضم مادة «تريفثالات الإثيلين المتعدد» (polyethylene terephthalate)، وهو شكل من أشكال البلاستيك ابتُكر في الأربعينيات، ويستخدم حالياً في ملايين الأطنان من العبوات البلاستيكية. الأنزيم الذي اكتشفه باحثون من «جامعة بورتسموث» البريطانية و«معمل الطاقة المتجددة الوطني» التابع لوزارة الطاقة الأميركية، خلال فحص بنية أنزيم طبيعي يعتقد أنه تطور في مركز لتدوير المخلفات في اليابان، تبين أنه «يساعد البكتيريا في تفتيت أو هضم المواد البلاستيكية المصنوعة من «تريفثالات الإثيلين المتعدد». وقرر الباحثون «تعديل» بنيته بإضافة بعض الأحماض الأمينية. وأدى ذلك إلى تغيير في عمليات الأنزيم بما يسمح لقدراته بالتهام البلاستيك بشكلٍ أسرع. ويعكف الفريق حالياً على تحسين أداء الأنزيم، لمعرفة ما إذا كان بوسعهم جعله قادراً على تحليل المواد البلاستيكية على نطاقٍ صناعي.
غلاف مجلة «ناشونال جيوغرافيك»، عدد حزيران/ يونيو المقبل