اتفاق مصري جديد مع صندوق النقد الدولي. الخبر لا يعني سوى أن مصر لن يكون بمقدورها الخروج من نفق الصندوق الذي دخلته في عام 2016. فرغم سلّة التمويلات، لم تتمكن من تأجيل انهيار جديد. هكذا انطلقت مفاوضات انتهت باتفاق أول في كانون الأول 2022 بقيمة 3 مليارات دولار. لكن لم يُنفّذ الاتفاق، إذ ظهرت شروط للشروط تطالب مصر بعمليات خصخصة واسعة، وبالتخلّي عن هوامش تدخّلها في السوق. لكن على وقع الظروف السياسية الدولية، ولا سيما العدوان الإسرائيلي على غزّة، تمكنت مصر من رفع قيمة الاتفاق إلى 8 مليارات دولار. وعلى هامش ذلك، حصلت أيضاً على استثمارات إماراتية بقيمة 34 مليار دولار، وعلى اتفاقات بقيمة 12 مليار دولار من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، وتأمل بأن تحصل على قرض إضافي من الصندوق بقيمة 1.2 مليار دولار. عملياً، دوامة الدين تقبض على مصر. فمنذ بداية جولات الاقتراض من الصندوق في 2016، ازداد الدين الخارجي بأكثر من ثلاثة أضعاف فيما تعاني احتياطات المصرف المركزي من نزفٍ سنوي يجبر السلطات المصرية على اتخاذ تدابير مبكرة للقيود على رأس المال. تمويل الصندوق ليس كل ما تطمح إليه مصر من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. فالأهم «جذب الاستثمارات». بدا هذا الأمر واضحاً في حديث المسؤولين المصريين عن الاتفاق. فعلى سبيل المثال، صرّح المتحدث باسم مجلس الوزراء المستشار محمد الحمصانى، بأن «التعامل مع صندوق النقد الدولي رسالة مهمة للمستثمر الأجنبي، والمستثمر لن يتشجع على الاستثمار والقدوم إلى مصر في ظل غياب تلك الشهادة المهمة». ببساطة، الهدف هو نيل «رضى» الصندوق وتوقيعه بأن الاقتصاد المصري يمكن الاستثمار فيه.
وأتت موافقة المجلس التنفيذي للصندوق على الاتفاق مع مصر مباشرة بعد اتفاقها مع الإمارات لإنفاق 35 مليار دولار على مشروع تطوير منطقة «رأس الحكمة»، إضافة إلى إيداع مبلغ 11 مليار دولار في البنك المركزي المصري. الاستثمارات الأجنبية هي الكلمة المفتاح للعقيدة النيوليبرالية التي انتشرت في دول المنطقة في الثمانينيات، وخصوصاً في ما يسمّى بلدان العالم الثالث. فقد تخلّت هذه البلدان عن سياسة الإنتاج الزراعي والصناعي (هناك أمثلة كثيرة من العالم العربي أخذت هذا المسار، ومنها مصر وتونس والجزائر التي تحاول عكس هذا المسار أخيراً)، وبدأت تعتمد على تدفقات الاستثمار الخارجي. التخلّي عن الإنتاج يعني الحاجة إلى الاستيراد، وبالتالي الحاجة إلى العملات الأجنبية، لكن الحساب الجاري (أي صافي العملات الأجنبية الجارية الداخلة والخارجة من البلد) المصري يعاني من عجز مستمرّ، بلغ نحو 11 مليار دولار عام 2011، أساسه العجز الكبير في الميزان التجاري الذي بلغ نحو 21 مليار دولار في السنة نفسها. لذا، تسعى هذه الدول إلى تغطية هذه العجوزات بالعملات الأجنبية عبر جذب الاستثمارات، إلى البلد.
المشكلة في هذه الاستثمارات، أنها تأتي بحثاً عن الأرباح في الأسواق المالية والعقارية، لا لتترجم زيادة في خطوط الإنتاج بهدف الكفاية المحلية أو التصدير. وبالتالي عندما ترتفع المخاطر، تحزم رؤوس الأموال حقائبها وتهاجر من الاقتصاد. وهذا ما شهدته مصر مراراً في السنوات الأخيرة، سواء في فترة كورونا، أو الحرب الروسية الأوكرانية، أو حين رفعت الولايات المتحدة الأميركية معدلات الفائدة. عند كل مفترق، كان الاقتصاد المصري يخسر جزءاً من رؤوس الأموال الأجنبية التي لديها مؤشرات إنذار مبكر وتستطيع الهروب بسهولة.
سهولة خروج رؤوس الأموال، أنتجت عجزاً كبيراً في صافي الأصول الأجنبية في القطاع المصرفي المصري، إذ تحوّل هذا الحساب من فائض في نهاية 2021 إلى عجز بنحو 27 مليار دولار في نهاية 2023، وهو أمر شبيه بما حصل في القطاع المصرفي اللبناني حين تحوّل صافي الأصول الأجنبية في القطاع المصرفي إلى حالة العجز، قُبيل انفجار الأزمة. وبسبب الحاجة إلى تغطية العجز في الحساب الجاري، وإلى تغطية خروج رؤوس الأموال الأجنبية، لجأت الحكومة المصرية إلى الاستدانة الخارجية، وهو ما أسهم في زيادة كتلة الديون الخارجية لمصر، وأدخل مصرف في دوامة الدين الأجنبي.
هذا الأمر يُعطي «توقيع» صندوق النقد بُعداً آخر. فالاتفاق مع الصندوق هو مفتاح لعودة مصر إلى سوق الدين العالمية، لإعادة تمويل دينها المتراكم بالعملات الأجنبية. دخول الصندوق إلى الصورة في 2016 فرض تحوّلاً في هيكلية الدين المصري ليصبح ديناً خارجياً بغالبيته. ففي 2016، كان حجم الدين الخارجي نحو 54 مليار دولار، مقابل 167 مليار في نهاية سنة 2023. وتقف الحكومة المصرية أمام معضلة تأمين 42 مليار دولار لتسديد ديونها في عام 2024 فقط، ومن هنا تأتي الحاجة الماسّة إلى الاستدانة بهدف تسديد الدين الموجود.
كان يفترض أن يُشكّل دخول صندوق النقد في عام 2016 مخرجاً لمصر من أزمتها. إلا أن المؤشرات (التي يحب الصندوق أن يدرسها)، تُظهر أن الحالة، في الحد الأدنى، بقيت كما هي، لا بل ازدادت سوءاً في بعض المجالات. فعلى سبيل المثال، لم يكن القطاع المصرفي مهدداً عام 2016، لكنه أصبح كذلك الآن. والحساب الجاري لا يزال في حالة عجز، وحجم الدين الخارجي يتزايد بشكل سريع، في حين أن الاقتصاد الحقيقي لا يُظهر أي علامات نموّ. يمكن القول إن دخول الصندوق كان أثره سيّئ على الاقتصاد المصري.