كتب المفكر الأميركي جان جي، تلك النصائح لأهالي مدينة نيويورك، في لحظة مصيرية من تاريخ الولايات الأميركية قبل أن تصبح متحدة. كان جي يدعو مواطني مدينة نيويورك إلى المشاركة في التصويت على الدستور الجديد للبلاد، محاولاً عن طريق مقالات كتبها للصحيفة المحلية في نيويورك، شرح مميزات الاتحاد تحت دستور للبلاد. لم يكتفِ بشرح أهمية الاتحاد، لكنه ذهب أبعد من ذلك، ليشرح كيفية التعلم من الأحداث التاريخية، ليس وصف الأحداث فقط، بل واقترح الحلول من أجل عدم تكرار هذه الأخطاء. فكيف يمكن فهم ما تمرّ به مصر الآن من خطر يهدد أمنها واستقرارها، بل وحياة مواطنيها، من دون العودة لأسباب تلك الازمات؟
في صباح يوم 30 آذار الماضي، استغل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مناسبة عودة قناة السويس مرة أخرى إلى عملها بعد حل أزمة سفينة الشحن «إيفر غيفن»، إذ كانت الفرصة مواتية له للتحدث مدركاً أن الأعين كلها ستراقبه. كعادته في إثارة الجدل، خرج بتصريح أمام وسائل الإعلام العالمية كافة، ليتحدّث عن مفاوضات سد النهضة، بابتسامة قد تضع الناظر في تخبّط ما إذا كانت ابتسامة ثقة، أو مجرّد أحاديث إعلامية، قال السيسي إن «حصة مصر من مياه النيل خط أحمر»، مؤكداً أن «رد الفعل المصري سيضع المنطقة بأكملها فى حالة من عدم الاستقرار». ثم أضاف في نبرة تهديدية «لا أحد يتصور أنه يقدر أن يبقى بعيداً عن قدراتنا، وأيدينا يمكن أن تطال أي مكان».


ذلك التصريح المفاجئ، رفع أسهم السيسي داخل مصر، على الرغم من مرور ثماني سنوات تشتّتت أثناءها شعبيته، ما بين إخفاقات في الجانب الاقتصادي، والملف الحقوقي، والسياسة الخارجية، كالتخبط في ملف التنازل عن جزيرتَي تيران وصنافير، وتفاقم حجم التبعية لدولتي الخليج السعودية والإمارات، وتبخر فكرة مكانة مصر كمصدر للغاز المكتشَف على شواطئ البحر المتوسط.
فماذا دفع الرئيس المصري، المحب للمفاوضات، لاتخاذ التهديد المباشر كاستراتيجية جديدة، في ذلك الملف؟ من أجل توضيح الصورة، لا بد من العودة إلى الوراء، وتحديداً إلى لحظة الإطاحة بمحمد مرسي، وتولّي السيسي مقاليد الحكم.

تحالفات هشّة

الخليج
في 3 حزيران عام 2013، أعلن وزير الدفاع آنذاك المشير عبد الفتاح السيسي، عزل الرئيس محمد مرسي وتكليف المستشار عدلي منصور إدارة البلاد، تمهيداً لتسلّمه السلطة بشكل رسمي في 2014. منذ اللحظات الأولى، كان النظام المصري يبني تحالفاته الخارجية، خصوصاً مع السعودية والإمارات، بناءً على المصالح المشتركة، وكانت إحدى أهم تلك المصالح القضاء على الحركات الإسلامية، والثورية، بعدما يُسمّى بـ«الربيع العربي». وفيما كان حلفاء النظام المصري يضخون عشرات المليارات، صرّح الرئيس المصري في أيّار عام 2014 أن المساعدات التي تلقاها «ليست 12 ولا 15 ولا 20 مليار دولار، بل أكثر».


تعتبر الرياض وحلفاؤها الخليجيّون القاهرةَ شريكاً أمنياً محورياً، إذ تمتلك جيشاً يُعَدُّ الأكبر والأقوى في العالم العربي. كما صرّح الرئيس المصري أن بلاده على بعد خطوات من الدفاع عن الخليج. استغل النظام المصري تخوّف السعوديين والإماراتيين من توسع النفوذَين الإيراني والإسلام السياسي في الشرق الأوسط، ليقدّم صفقة سياسة ذكية وانتهازية تهدف إلى ضمان تدفّق المساعدات من الخليج. فبينما قدّمت مصر دعماً للحملة ضدّ حركات الإسلام السياسي والدول الراعية لها، مثل قطر وتركيا، امتنعت عن تقديم التزامات جوهرية بخوض مواجهة خطيرة مع إيران، تحديداً خلال «عاصفة الحزم».

كان للتغيير الضخم في ثقافة مصر الاقتصادية، بعد تحرّك الجيش في 3 تموز، مكاسب للنظام لبناء شرعيته العالمية، بدأت منذ عام 2016، حين دشّن النظام البحث عن مصادر مختلفة للتمويل، للتخلص من قبضة الخليج الاقتصادية.



ظهر نجاح الخطة بشكلٍ متسارع، في مستوى الحيازات الخارجية لسندات الخزينة المصرية قصيرة الأمد، التي ازدادت من 60 مليون دولار في منتصف عام 2016 إلى 20 مليار دولار في تشرين الأول 2019. وتُشير أرقام آخر إحصائيات الديون الخارجية عام 2020، إلى زيادة نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي المصري من 14.67 في المئة في عام 2012 إلى 31.7 في المئة بحلول الربع الأول من سنة 2020، إذ بلغت 111.3 مليار دولار. كل تلك الاستثمارات مرتبطة ببقاء النظام.

الولايات المتحدة، الصين، إسرائيل
في تموز عام 2018، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريراً عن موقف إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، جاء فيه أنه على الرغم مما يروجه الرئيس دونالد ترامب عن قطيعة إدارته مع سياسة أوباما الخارجية، فإن سياسته تجاه مصر والانقلاب ليست سوى امتداد لسياسة إدارة سلفه، مع اختلاف طريقة ترامب في التعبير عن حقيقة سياساته ومواقفه بطريقة فجة، مثل إعلان إعجابه بالسيسي واعتباره ديكتاتوره المفضل.

بعض أكثر المؤيدين الأميركيين للانقلاب العسكري انتهى بهم المطاف ليحتلوا أعلى المناصب داخل إدارة ترامب، بما في ذلك وزير الدفاع جيم ماتيس، وأوّل مستشار للأمن القومي اتخذه ترامب وهو مايكل فلين.


وبينما ظل السيسي محبوباً على مستوى الإدارة الأميركية، كان التقارب مع الكيان الإسرائيلي أمراً طبيعياً. في 10 تموز عام 2016، وبالتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأميركية، جاءت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لإسرائيل، تعبيراً عن الأجواء الدافئة بين الطرفين، لِتعكس قوة ومتانة العلاقة الحالية بين القاهرة وتل أبيب، والتي تعزَّزت بشكل كبير منذ تولّي السيسي مقاليد الحكم في 8 حزيران عام 2014. وكانت العلاقات التعاونية الأمنية المصرية - الإسرائيلية تطورت خلال أوّل سنتين من حكم السيسي، بحيث تركّز هذا التعاون على مكافحة تنظيم «داعش» بالدرجة الأولى.

وبذلك، كانت القاهرة وتل أبيب، على موعد مع تشارك المصالح كما لم تتخيّلا من قبل. في 22 أيلول الماضي، وقّعت إيطاليا واليونان ومصر وإسرائيل وقبرص، ميثاق منتدى شرق المتوسط للغاز. اتّفق المنتدى على أن تكون مصر هي المركز المحوري لتصدير غاز منطقة شرق المتوسط، إذ تمتلك مصر علاقات مع الكيان الإسرائيلي ولديها الموقع الجغرافي الملائم وبنية تحتية جاهزة.

قُدّرت قيمة الاتفاق بنحو 19.5 مليارات دولار، وهو ينصّ على أن تستورد مصر 85.3 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي على مدى السنوات الـ15 المقبلة. كما أن لدى مصر خطّ «سومد» الداخلي، الذي يمتدّ من خليج قناة السويس على البحر الأحمر إلى شاطئ الإسكندرية على البحر المتوسط، ما يتيح لها نقل الغاز المسال. وظل الدعم الأميركي - الإسرائيلي، مسانداً لنظام السيسي، في أزماته السياسية مع المنظمات الحقوقية، والأزمات الاقتصادية، وتسهيل الاقتراض من البنك الدولي وصندوق النقد.


أمّا الصين، بدورها، أولت اهتماماً كبيراً بدعم التعاون مع مصر، منذ انعقاد منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في جوهانسبرغ عام 2015، بدأت بمشاريع البنية التحتية، ثم وقّع البنك المركزي المصري في كانون الأول عام 2016 مع نظيره الصيني اتفاقية لتبادل العملات بقيمة 18 مليار يوان صيني، وتخطت قيمة العقود الموقعة والقروض التي منحها بنك التنمية الصيني وبنك «أكسيم» الصيني والبنك الصناعي والتجاري الصيني وشركة «صينوسور» لمصر 5 مليارات دولار. بالإضافة إلى توقيع شركة صينية على تنفيذ مشروع مركز الأعمال بالعاصمة الإدارية الجديدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار.

طعنات من الخلف
حينما كانت تُبنى الصداقات الجديدة، لم تكن كما قال جان جي مبنية على أساس قويم، إذ كانت مصر تتفاوض من موقف ضعف بسبب انقسام المجتمع بعد 3 تموز. ومع مرور الوقت وتضارب المصالح، اتّضح أن تلك الشركات التي أسسها النظام منذ قدومه، كانت سراباً.


وجدت إثيوبيا الفرصة سانحة أمامها للمُضي قُدماً في خطّتها المسمّاة بـ«المشروع اكس»، منذ عام 2011. استغلت إثيوبيا الاضطرابات السياسية في القاهرة، بعد ثورة يناير والانتقال السياسي عقب الإطاحة بحسني مبارك، وقامت بوضع حجر الأساس للسد الأضخم في أفريقيا على النيل الأزرق، معلنة عن مشروع سد النهضة. طول أربع سنوات، لم يكن لمصر دور فعّال في تلك الأزمة، التي كانت من الأسباب الرئيسية لتظاهرات 30 حزيران التي أطاحت بمحمد مرسي، ليأتي «رجل عسكري يستطيع حل الأزمة»، هو عبد الفتاح السيسي.

كانت أديس أبابا قد بدأت في سعيها لتمويل سد النهضة من خلال الموارد المحلية، فسعت لضخ التمويل الوطني من خلال وسائل أكثر تقليدية، معتمدة في البداية على المصارف المحلية التي تعرّضت لضغوط من قِبل الحكومة لمنحها قروضاً بفوائد مخفّضة، حيث فرضت السلطات على البنوك تخصيص نسبة 27% من قوة الإقراض الخاصة بها لصالح الدولة. ثم فرضت أديس أبابا على موظفي الخدمة المدنية التبرّع بجزء من رواتبهم للمساهمة في إنشاء السد، وشملت جمع التبرعات عبر رسائل الهاتف المحمول، مسابقات اليانصيب، وحتى الفعاليات الرياضية التي أُقيمت في جميع أنحاء البلاد بهدف جمع الأموال لتمويل السد.

كل تلك المحاولات كانت بعيدة عن تأمين 5 مليارات دولار، تكلفة بناء السد. فلجأت إثيوبيا إلى الاستفادة من مواطنيها المهاجرين في الخارج، فأصدرت سندات تمويل موجَّهة بشكل خاص لمجتمعات المهاجرين، كانت أغلب عمليات الشراء من قبل إسرائيليين من أصل إثيوبي (يهود الفلاشا). غالباً ما يُوفِّر هذا النوع من التمويل للحكومات الكثير من المزايا التي لا تتوفر غالباً مع الدائنين الأجانب، أوّلها توافر الحس الوطني، خصوصاً أن وضع يهود الفلاشا في إسرائيل مأساوي حيث يتعرّضون للتفرقة العنصرية، وقلة فرص العمل.

في عام 2014، أعلنت أديس أبابا نجاحها في جمع أكثر من 450 مليون دولار، ويُعتقد أن حصيلتها وصلت إلى مليار دولار على الأقل منذ ذلك التوقيت، إلا أنه في عام 2015 كانت أعمال البناء في السد قد توقّفت بشكل كلي، وبدا أن أحلام أديس أبابا الطموحة في طريقها للانهيار، بسبب التمويل. هنا أتى دور حلفاء مصر الاستراتيجيين لتوجيه يد العون لأديس أبابا وطعن القاهرة.

مموّلو السد الدوليون

الصين
رحلة بكين في إثيوبيا بدأت باكراً. في عام 2002 قامت الصين بتمويل سد تيكيزي بقيمة 224 مليون دولار عبر الشركة الوطنية الصينية للموارد المائية. وفي عام 2012 قرّرت الصين استثمار 500 مليون دولار في سد «جايب 3» على نهر أومو، عن طريق البنك الصناعي التجاري الصيني، ما تسبّب في غضب كبير بدأ من كينيا المجاورة. استمرّت بكين في تعاونها الكهرومائي، في محطة أميرتي ــ نيشي الكهرومائية، عن طريق شركة «جيزوبا» الصينية.


على الرغم من أن الصين قد تجنّبت تقديم قروض مباشرة لتغطية تكاليف إنشاء سد النهضة، خوفاً من إثارة غضب مصر، لكن بكين أعلنت في نيسان 2019 منح قرض بقيمة 1.8 مليار دولار لحكومة رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد، خلال الزيارة التي قام بها الأخير إلى الصين بهدف توسيع شبكة الكهرباء في إثيوبيا. حتى مع كل الإنكار الذي تتّبعه بكين في الملف، تُبقي 6 شركات صينية تعمل في بناء السد.

كانت المنافسة شديدة على عقود سد النهضة، واستغلت أديس أبابا تنويع عقود البناء، كورقة دعم دولي لمشروعها الضخم من خلال الشركات الغربية المرموقة، في حالة اعتراض مصر والسودان. نجد الشركة الإيطالية الضخمة «وي بيلد»، «ساليني إمبريجيلو» سابقاً، هي مَن تتولّى تنفيذ أعمال الإنشاءات الرئيسية لسد النهضة، كما تولّت أعمال الإنشاءات في سد «جايب 3»، كما ترتبط أيضاً بعقد مع الحكومة الإثيوبية منذ عام 2016 لبناء سد «كيوشا»، فيما تعمل شركة «فويث هيدرو» الألمانية لتوريد التوربينات الضخمة للسد بالشراكة مع شركة ألستوم الفرنسية، التي تعمل هي الأخرى في مشروعات السد بموجب عقد مشترك مع شركة «جنرال إلكتريك» الأميركية العملاقة.

الولايات المتحدة
في شهر شباط من عام 2019، كان التحرّك الأميركي الأوّل لوضع قدم في إثيوبيا، حين صرّح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، من أديس أبابا، مطلقاً حرباً كلامية على الوجود الصيني في إثيوبيا. قال بومبيو إن الولايات المتحدة جاءت اليوم من أجل «فرص استثمارية حقيقية وجذابة»، على عكس كثير من الدول «الديكتاتورية» التي جاءت إلى إثيوبيا «بوعود فارغة وشجّعت الفساد والتبعية». وسريعاً في آذار عام 2019، أعلنت الولايات المتحدة استثمار 5 مليارات دولار في إثيوبيا من خلال مؤسسة تمويل التنمية الدولية. أُنشِئت المؤسسة الجديدة بالأساس لتحلّ محلّ المؤسسة الأميركية للتمويل الخاص الخارجي. وتعمل لخدمة المصالح السياسية للولايات المتحدة، وعلى رأسها مواجهة «التغوّل الصيني في الدول النامية» في أفريقيا.

إسرائيل
بدأت قصة إسرائيل مع سد النهضة في حزيران من عام 2015، حين قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بزيارة وصفها بـ«التاريخية» إلى أديس أبابا. خطب في حينها أمام البرلمان الإثيوبي قائلاً: «اليوم أفتخر بأن أعلن أن إسرائيل عادت إلى إفريقيا بكل قوة».

بعد تلك الزيارة بعام، استقبل نتنياهو نظيره الإثيوبي حينها «بحفاوة». خلال الزيارة ذاتها اصطحب رئيس الوزراء الإثيوبي إلى جانب وزير الزراعة والموارد الطبيعية، كلاً من وزراء الخارجية، والدفاع، ووزير المياه والطاقة والكهرباء، ونائب وزير العلوم والتكنولوجيا، وهي تشكيلة تعكس رغبة إثيوبيا في تطوير العلاقات مع إسرائيل على أصعدة مختلفة، يبدو أهمها التكنولوجيا والمياه والزراعة.


على الرغم من نفي إسرائيل الدائم دورها في بناء سد النهضة (حتى أن السفارة الإسرائيلية في القاهرة أصدرت بياناً تنفي فيه دورها في بناء السد الإثيوبي)، فإنه في تموز عام 2019 زعم موقع «تيك ديبكا» الاستخباري الإسرائيلي أن تل أبيب تسعى لتحصين سد النهضة، وذكر الموقع أن طواقم من ثلاثة مصانع متخصصة في الصناعات العسكرية والدفاعية والجوية في إسرائيل أنهت (2019) العمل على نصب منظومات دفاعية جوية متطورة من طراز «Spyder-MR» حول السد الإثيوبي.

وبالإضافة إلى استحواذ شركة إسرائيلية على عقود إدارة محطات الكهرباء في إثيوبيا بما فيها محطة «سد النهضة»، لدى إسرائيل أكثر من 240 مستثمراً يعملون في إثيوبيا بمجالات الري والكهرباء والمياه، فضلاً عن تنفيذ مشروعات ري ضخمة من خلال المياه الإثيوبية بعد إتمام بناء السد، بالتوازي مع تمويل 200 مليون دولار لتطوير أنظمة الري، ذلك ما أكده السفير الإثيوبي السابق لدى كيان الاحتلال هيلاوي يوسف.

لم تكتفِ إسرائيل بطعنة واحدة، فى ملف السد، فقامت بعمل اتفاقية في 2 كانون الثاني عام 2020، لاتفاق خط أنابيب «شرق المتوسط» بينها وقبرص واليونان، خط أنابيب الغاز «إيست ميد» البالغ طوله 1872 كلم وسيتيح نقل ما بين 9 و11 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً من الاحتياطيات البحرية لحوض شرق المتوسط قبالة قبرص وفلسطين المحتلة إلى اليونان وكذلك إلى إيطاليا ودول أخرى في جنوب شرق أوروبا عبر خط أنابيب الغاز «بوسيديون» و«إي جي بي».

الخليج
كانت أوّل تبرّعات لأديس أبابا من أجل بناء السد في عام 2011، عن طريق الملياردير السعودي محمد حسين العمودي، حيث قدّم تبرّعاً بقيمة 88 مليون دولار لبدء أعمال الإنشاءات الأولى للسد، بينما كان مهندس الربط الزراعي بين الرياض وأديس أبابا منذ نجح في إقناع السلطات السعودية باستثمار 7 مليارات دولار لاستصلاح نصف مليون هكتار (نحو 1.25 مليون فدان) في مقاطعة غامبيلا في إثيوبيا.
وفيما بدأت السعودية في ضخ 140 مليون دولار، كقروض لبناء محطات لتوليد الطاقة الشمسية، في كانون الأول 2019، لم تكن علاقات مصر بالسعودية كما كانت من قبل.


لم يختلف التوجه الإماراتي عن توجّه الرياض كثيراً. إذ يبقى الاستثمار الإماراتي في سد النهضة واحداً من أكبر الاستثمارات، فقد وصل إلى أكثر من 1.2 مليار دولار، في عام 2018، بينما منحت أبوظبي 3 مليارات دولار بعد ذلك كقروض. كما أن استثماراتها تصل إلى 7 مليارات دولار في السودان، بالإضافة إلى أن استثماراتها وشركاتها في مصر قد اهتزّت بالفعل، بسبب ذلك الموقف الرمادي في ملف السد، بالإضافة إلى قضايا أخرى، مثل التطبيع مع إسرائيل، ومشروع سكك حديد لنقل النفط من الإمارات إلى ميناء حيفا.

كل تلك الأزمات والطعنات، من الحلفاء السابقين، جعلت من النظام المصري في حاجة إلى الخروج من عنق الزجاجة الذي أُقحم فيه.

الخروج من عنق الزجاجة

في كانون الثاني عام 2020، صدر تقرير عن موقع «مدى مصر»، جاء فيه أن جميع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وغيرها من الدول النافذة إقليمياً ودولياً، لديها شركات تعمل في سد النهضة، بما يعني أن هذه الدول سوف تكون - في أفضل الأحوال - متردّدة في اتخاذ أي مواقف منحازة ضد مصالح إثيوبيا بشأن قضية السد، حال أُثيرت القضية في أي من المنتديات والمحافل العالمية، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

بعد تأكد النظام المصري أن أمنه القومي أصبح في خطر مدمّر قد يطيح بمكانة، وإمكانيات، ومقدّرات مصر التاريخية، بدأت تتخذ القاهرة مناورات سياسية، على عكس توجه سياسات الخليج، وبدأ يظهر تباعد بين مصر والسعودية.

منذ نشوب حالة من التوتر في العلاقات السعودية المصرية بعد أن أعلن وزير النفط المصري، طارق الملا، في عام 2016، أن شركة «أرامكو» السعودية للبترول أبلغت الهيئة المصرية العامة للبترول بالتوقف عن إمدادها بالمواد النفطية «لحين إشعار آخر»، أخذت علاقات البلدين منحى ونمطاً غير مألوف عقب تصويت مصر لصالح قرارين مختلفين في مجلس الأمن، أحدهما مشروع قرار فرنسي لوقف العنف في حلب، والآخر مشروع قرار روسي تعارضه السعودية ودول الخليج.


أثار تصويت مصر لصالح القرار الروسي حالة غضب لدى المملكة العربية السعودية التي اعتبرته مخالفاً للموقف العربي. ووصفه عبد الله المعلمي، مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة، بأنه «مؤلم». استمرت بعد ذلك حالة التوتر بين الإدارتين، ما دعا السيسي إلى التصريح صراحة بأن «هنالك بعض الدول تحاول الضغط على مصر, لكننا لن نرضخ لأحد».

لكن، وعلى رغم من نفي الدولتين وجود خلافات، فقد ظهر تراجع في المساعدات وعدم إبداء الجدية في تنفيذ العديد من المشروعات والملفات التي تم الاتفاق عليها في خلال زيارة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى مصر في نيسان 2016، وزيارة ولي عهده الأمير محمد بن سلمان في آذار 2018.

كانت قد تضمنت حزمة المشاريع التي كان قد تم الاتفاق عليها بالتزامن مع تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية عام 2016، مشروع جسر الملك سلمان الرابط بين السعودية ومنطقة نبق في سيناء، والذي ما زال جامداً منذ عامين عند نقطة المفاضلة بين مشروعين. لكن تبقى السعودية تحاول الحفاظ على مصر كحليف إقليمي، لا تريد خسارته لذلك، قد تدعم موقف مصر بشكل علني، ما قد يؤثّر على استثماراتها في إثيوبيا.

أمّا الإمارات، فقد بدأت الخلافات بين الطرفين في ليبيا، وبرود عمليات الاستثمار في مصر، والتقارب الإماراتي الإسرائيلي على مستوى مشاريع إقليمية مهمّة وغيرها من علامات حالة البرودة التي أصابت علاقات الطرفين، بما يشير إلى أن مواقف الإمارات في النزاع مع أديس أبابا إنما تهدف لتمرير عملية الملء الثاني بأقل ضجة ممكنة، بحيث يصبح من الصعب تغيير واقع أصبح مفروضاً على الأرض.

لذلك، رفضت مصر وساطة أبوظبي في ملف سد النهضة، بحسب تقرير لموقع «المونيتور» الأميركي، بعد يوم واحد من تهديد السيسي المباشر، إذ أفاد تقرير الموقع بأن القاهرة أبلغت الخرطوم – التي جاء مقترح الوساطة الإماراتية عبرها – أن مصر متمسكة بالتدخل الرباعي الدولي (الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي) في مفاوضات السد المتعثرة.

كان التحدي بالنسبة إلى الدولة المصرية هو اتخاذ مواقف قوية حيال الطعنات التي تتلقاها، كان الأوّل عسكرياً، والثاني سياسياً. بدأت القاهرة بتحويل الموقف السوداني الذي كان مهادناً في البداية لأديس أبابا، إلى حليف لها في المفاوضات، بل وبدأ التنسيق العسكري المباشر، وتنظيم مناورات عسكرية مشتركة على الأراضي السودانية.
ذلك بالإضافة إلى إقامة اتفاقيات عسكرية ومخابراتية مع الدول المجاورة لإثيوبيا، مثل اتفاقية تبادل المعلومات العسكرية بين مصر وأوغندا. وكذلك شراء طيران حربي قادر على القيام بمثل تلك المهمات الصعبة.

أمّا سياسياً، بدأت القاهرة في بناء شراكات جديدة، مع أعداء حلفائها القديمين، فبدأ التقارب مع النظام التركي، وظلت العلاقات مع طهران هادئة، وظهر التنسيق الروسي واتفاقية الشراكة الكاملة مع روسيا، والتي دخلت حيّز التنفيذ في كانون الثاني 2021، بالإضافة إلى تفعيل النشاط الدبلوماسي الذي أظهر نتائج إيجابية في الآونة الأخيرة على أكثر من صعيد.


يبدو أن التحركات السياسية المصرية قد أتت ثمارها بعد زيارة محمد بن زايد الأخيرة إلى مصر في 24 نيسان الجاري. ما أكدته بعد ذلك تقرير إعلامية، نقلت عن مصادر بارزة في الحكومة المصرية، أن زيارة بن زايد الأخيرة، كان الهدف منها إقناع مصر «بمنحها فرصة» للعب دور الوسيط مع إثيوبيا، في مقابل ضخها للاستثمارات في مشاريع تجمع ما بين البلدان الثلاثة (مصر، السودان، إثيوبيا)، لكن هل ستقبل مصر بالإمارات ومشروعها كحل وسط للأزمة؟ أم سترفض مصر الوساطة مرة أخرى؟

المؤكد أنه بعد عدة سنوات من المفاوضات مع الجانب الإثيوبي، وفشل تلك المفاوضات في واشنطن وفي أوغندا، الرئيسة الحالية لـ«الأمم الأفريقية»، وفشل كل الوساطات الدولية، واستمرار تعنّت أديس أبابا، كان النظام المصري بالفعل قد خرج من عنق الزجاجة. ليبدأ بخطابه الشهير بأن «يد مصر ستصل إلى أي مكان» وأنه لا يتمنى أن يتم إجبار مصر «لاتخاذ مواقف ستجعل المنطقة بأكملها مضطربة»، وظل يؤكد أنه يحب السلام لكنه لن يتنازل عن نقطة واحدة من مياة النيل. يتضح مع الوقت أن تهديد السيسي الموجه إلى إثيوبيا لم يكن لإثيوبيا فحسب، بل كان لشركاء إثيوبيا كافة في العالم.

فهل ستخوض مصر والسودان حرباً من أجل الماء؟ هل ستقبل الدول المساهمة في تدمير مصر لاستثماراتها؟ من سيظل حليفاً لإثيوبيا في حال بدأت بالملء الثاني؟ ومن سيكون إلى جانب مصر والسودان؟ أم هل سترضخ إثيوبيا وتوافق على التفاوض مع مصر والسودان بجدّية؟ كل تلك الأسئلة سوف نعرف إجابتها ما بين تموز وآب 2021، موعد الملء الثاني لسد النهضة.