المصدر: مصرف لبنان وجمعية المصارف - (تصميم رامي عليّان) | للصورة المكبّرة أنقر هنا
5.6 مليارات دولار كانت أرباح المصارف من الهندسات الماليّة التي أجراها مصرف لبنان سنة 2016، في إحدى أكبر عمليّات نقل الأموال العامة إلى أموال خاصّة في تاريخ لبنان الحديث. بعض المصارف حقّق في تلك العمليّات الاستثنائيّة والسريعة أرباحاً مجّانيّة تعادل أضعاف الأرباح التشغيليّة العاديّة لسنة كاملة. كانت أبرز التبريرات، التي طرحتها المصارف وحاكم مصرف لبنان وقتها، هي استعمال معظم الأرباح لتكوين المؤونات والتقيّد بمتطلّبات المعيار الدولي IFRS9 (أو المعيار 9)، الذي بدأ القطاع المصرفي بتطبيقه في مطلع 2018.
حاول القطاع المصرفي ومصرف لبنان تصوير عمليّة تكوين المؤونات والالتزام بالمعيار 9 كأحد الأعمال المرتبطة بالمصلحة العامّة، والتي تبرّر بطريقة ما استفادة المصارف من أرباح خياليّة من أجل تحقيقها، حتى أصبح التحضير لتطبيق المعيار 9 نفسه قبل أكثر من سنة من موعد تطبيقه واحداً من إنجازات حاكم مصرف لبنان بمعزل عن طريقة تكوين المؤونات وهدفها.

معايير من أجل المصارف
IFRS9 أو المعيار 9 هو واحد من المعايير التي أقرّها "مجلس معايير المحاسبة الدوليّة"، وهو مجلس تشرف عليه "مؤسسة المعايير الدوليّة للتقرير المالي"، التي تعرّف عن نفسها كمؤسسة غير حكوميّة مستقلّة، تعمل على "تطوير معايير خاصّة لإعداد التقارير الماليّة"، كما تسعى إلى "تشجيع الالتزام الصارم بها". وإذا أردنا تبسيط فكرة المعايير، فهي ببساطة الأسس والضوابط والتفسيرات التي يضعها المجلس للمؤسسات والشركات (المصارف مثلاً) لاحتساب وعرض الأرباح والخسائر والمؤونات والموجودات وغيرها من البنود المحاسبيّة. بمعنى آخر، يسعى المجلس إلى خلق لغة محاسبيّة عالميّة مشتركة تمكّن أصحاب العلاقة من عرض البيانات، وقراءتها بحسب قواعد ثابتة ومعترف بها.
تهدف هذه المعايير أوّلاً إلى تعزيز الفعاليّة الاقتصاديّة لهذه الشركات، إذ يساهم وضعها وفق أسس عالميّة في عرض بياناتها بشكل أوضح وأدق للمستثمرين. كما تساهم وفق المجلس نفسه في تطوير القدرة على المساءلة، في ظل وجود معطيات معروضة بحسب معايير ومعطيات قابلة للمقارنة عالمياً. ويعتمد المجلس إصدارات مختلفة (مثل المعيار 9) لمعالجة أنواع محدّدة من البيانات المحاسبيّة.
في حالة المصارف، وفي حالة المعيار 9 بالتحديد، من المفترض أن يساهم المعيار هذا أيضاً في تقليص تعرّض المصارف للمخاطر، عبر فرض تكوين مؤونات ضمن ميزانيّات المصارف (أي احتياطي مالي يُقتطع من الأرباح أو زيادة رأس المال وتغطية المساهمين للنقص)، لمواجهة احتمالات الخسائر المتأتية عن التعثّر في إيفاء القروض.
ورغم أنّ هذا الاحتياطي هو ضمن ميزانيّات المصارف، وهو يخص المصارف وملاءتها والمخاطر التي تتعرّض لها، قام المصرف المركزي بتكوين هذه المؤونات الخاصّة نيابة عن المساهمين ولمصلحة زيادة ثرواتهم، من خلال الهندسات الماليّة الشهيرة والأرباح الاستثنائيّة الناتجة منها، أي من المال العام.

قصّة المعيار 9
تعود قصّة المعيار 9 أو IFRS9 إلى الدروس المستخلصة من الأزمة الماليّة العالميّة سنة 2008. في ذلك الوقت، كانت المؤسسات الماليّة والمصارف تقتطع من أرباحها مؤونات عامّة كاحتياطي، كما كانت تشكّل مؤونات خاصّة لمواجهة الخسائر الناتجة من القروض التي تعثّرت أصلاً. ولم تكن المصارف تميّز خلال هذه العمليّة بين المقترضين بحسب حجم المخاطر (أو احتمال التعثّر مستقبلاً) طالما أن العملاء ملتزمون بالدفع ولم يتعثّروا بعد.
عند حدوث الأزمة، تفاقمت المشكلة عند تسجيل المصارف خسائر كبيرة مفاجئة بفضل حجم القروض المتعثّرة الضخمة، والتي لم تكن المصارف قد كونّت لها مؤونات استثنائيّة، رغم ارتفاع درجة المخاطر فيها منذ البداية (بحسب نوعيّة المقترضين)، وذلك ببساطة لأنّ هذه القروض كانت سابقاً قروضاً عاديّة، أي أنّ أصحابها كانوا من الملتزمين بالدفع قبل التعثّر، بمعزل عن احتمال التعثّر مستقبلاً.
المؤونات المطلوب تكوينها هي أموال خاصّة بالمصارف وأصحابها


وهكذا وجد مجلس معايير المحاسبة الدوليّة أنّ هناك ضرورة لتحديد مخصّصات ومؤونات احتياطيّة مقابل الديون الجيّدة، يتم احتسابها بحسب درجة المخاطر واحتمالات التعثّر لكل مقترض، ووفقاً لنوع الضمانة وطبيعتها. كما يُفترض بالمصارف أن تعمد الى اقتطاع هذه المؤونات والاحتياطات من الأرباح الخاصّة بها أو عبر تغطيتها من المساهمين، كما يحصل في معظم البلدان. ولتقدير قيمة المؤونات الواجب تأمينها، على المصارف أن تبادر إلى صياغة نماذج إداريّة تمكّنها من تقويم هذه المخاطر بالاحتمالات والأرقام، ومن ثمً احتساب قيمة المؤونات المطلوبة على هذا الأساس.

كلفة المعيار 9 من «الهندسات»
في تموز 2014، أصدر مجلس معايير المحاسبة الدوليّة المعيار 9، على أن يكون واجب التطبيق اعتباراً من 01/01/2018، أي خلال ثلاث سنوات ونصف سنة. وفي تشرين الثاني 2017، أصدر مصرف لبنان القرار الأساسي 12713، طالباً من المصارف تطبيق المعيار ابتداءً من مطلع 2018 كما في طلب مجلس معايير المحاسبة الدوليّة.
كان لا بد لأصحاب المصارف من زيادة الرساميل المصرفيّة لتكوين هذه المؤونات أو اقتطاعها من الأرباح التشغيليّة العاديّة للمصارف، إلا أن مصرف لبنان بادر إلى منحها ما يكفي الأرباح الاستثنائية بما يفوق حاجتها الى تكوين المؤونات، من خلال عمليّات الهندسة الماليّة التي جرت سنة 2016، مستفيدةً من الأرباح الضخمة.
كان واضحاً أن لهجة المصارف في الإعلام توحي بأن تطبيق المعيار ورفع ملاءة المصارف لهذه الغاية هي واجب وطني يقتضي تمويله من "هندسات" استثنائيّة، فصار الكلام عن "الهندسات" متلازماً مع الكلام عن ضرورة تطبيق المعيار. وتكرر الكلام في العديد من تصريحات حاكم المصرف المركزي بأنّ الهندسات هدفت عمليّاً إلى تعزيز ميزانيّات المصارف لهذه الغاية، وتناسى الجميع أنّ المؤونات المطلوب تكوينها هي في المحصّلة أموال خاصّة بالمصارف وأصحابها، أي بمعنى أوضح، هي جزء من ثرواتهم الخاصة التي تعاظمت وصارت أكبر على حساب المال العام.



خطوات تنفيذيّة: تغييرفي النموذج الائتماني
ثمّة تغييرات ستمر بها الأنظمة الائتمانيّة الخاصّة بالمصارف عند تطبيق المعيار 9، وهي الأنظمة التي يتم على أساسها متابعة وضع القروض وحجم مخاطرها. فالأنظمة الائتمانيّة التقليديّة تركّز عادةً على ملاءة المقترض وقدرة الإيفاء عند منح القرض، وذلك لأخذ القرار بخصوص منح القرض أو عدم المنح.
لكنّ تطبيق المعايير الجديدة سيحتاج، إضافةً إلى ذلك، إلى متابعة احتمال التخلّف في المستقبل بشكل دائم خلال فترة السداد، من خلال مؤشّرات محدّدة، وخصوصاً أن نسبة المؤونة التي سيخصصها المصرف مقابل القرض سيحددها حجم المخاطر أو احتمال التخلّف عن السداد في المستقبل، وهو احتمال سيتغيّر بتغيّر ظروف المقترض خلال فترة السداد.
وهكذا سيحتاج تطبيق المعيار الى إيجاد أنظمة متابعة خاصّة لتقويم وضع قروض وتوظيفات المصارف بشكل دائم، وهي أنظمة تختلف بأهدافها وطبيعتها عن أنظمة المتابعة الموجودة حاليّاً لتقويم القروض وملاءة المقترضين. وقد عملت جميع المصارف اللبنانيّة على ورش عمل خاصّة لصياغة أنظمة ائتمانيّة خاصّة على المستوى الإداري لهذه الغاية بالتحديد.
ومن المفترض ترجمة هذه المؤشّرات في النهاية بتقويم خاص لكل قرض أو توظيف تقوم به المصارف، على أن تسمح هذه التقويمات باحتساب احتمالات التعثّر لاحقاً لكل قرض أو توظيف. وبالتالي، سيكون على المصارف احتساب مؤونات مخصّصة بحسب احتمالات التعثّر هذه.
يُحدد قرار مصرف لبنان خطوات تنفيذيّة خاصّة بتطبيق هذه المعايير ضمن إطار النظام المصرفي اللبناني. إذ من المفترض أن تجري المصارف مراجعة فصليّة للمخاطر الائتمانيّة لكل نوع من القروض داخل الميزانيّة، بهدف التأكّد من احتمال حدوث ارتفاع في مستوى هذه المخاطر. كما يحدد القرار أدواراً خاصّة للجان التدقيق والمخاطر داخل المصارف، حيث من المفترض أن تستحصل على تقارير داخليّة للتأكّد من تطبيق المعيار المذكور، وإطلاع مجالس الإدارة على ذلك. ويعطي القرار دوراً خاصاً لمفوّضي الرقابة من خلال إبداء الرأي بمدى امتثال المصارف لمتطلّبات تطبيق هذا المعيار.