«إن الأسعار الرخيصة للسلع هي المدفعية الثقيلة التي تدكّ أسوار الصين»البيان الشيوعي

كان واضحاً من اليوم الأول لإطلاق حملته الانتخابية، أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سيكون مختلفاً، بل مختلفاً جداً. شعاراته راوحت من «إرجاع العظمة إلى أميركا» إلى «أميركا أولاً»، بالإضافة إلى أسلوب مختلف من الخطابات والتصاريح والمواقف التي كسر فيها أكثر من 30 عاماً من الرتابة الوسطية، ذات الخطاب الفائق الاعتدال حتى الغثيان، الذي حرص على جذب الناخب الوسطي؛ وهو الناخب الذي اعتبر منذ نهاية الحرب الباردة المحدد لمن يفوز في الديمقراطيات الغربية المنتصرة آنذاك. كما كسر ترامب مع الخطاب المُعقّم الذي فرضه «اليسار الثقافي» (حتى الغثيان أيضاً) القصير النظر.
ظن الكثيرون أن ذلك الكسر سيرمي بترامب إلى مزبلة التاريخ، ولكنه بالنهاية فاز على الممثلة الوحيدة والشرعية لهذين الخطابين، هيلاري كلينتون. وزيادة في الدهشة لدى الليبراليين واليسار الثقافي أنهم ظنوا أنه سيتخلى عن شعاراته وخطابه بسبب «حاجة السلطة»، ولكنه لم يفعل. الآن نحن أمام موجة جديدة من سياسات ترامب، وهي قد تكون أخطرها، ابتدأت بـ«الحمائية»، وقد تنتهي ــ ولو على المدى الطويل ــ بـ«حرب تجارية»، تلحق أضراراً كبيرة بالاقتصاد العالمي. انسوا الجدار بين أميركا والمكسيك، كما سياساته الداخلية الأخرى. فالحمائية واحتمال الحرب التجارية هما التهديد الحقيقي، إذ إنهما التجسيد الفعلي المتاح لإدارة ترامب لتحقيق شعارات «إعادة العظمة» و«أميركا أولاً».
ولكن قبل كل شيء، البعض يظن أن هذه الحروب هي واقعة دوماً لأن الدول في تنافس دائم على الكعكة الاقتصادية. ولكن هذه الحروب التجارية لا تحدث إلا نادراً، وخصوصاً منذ الاتفاقيات التي رعت النظام الاقتصادي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. فآخر الحروب التجارية المؤذية حصلت في ثلاثينيات القرن الماضي، بعيد الكساد العظيم، وأدت إلى تعميق الأزمة الاقتصادية الكبرى آنذاك. وكانت إحدى وسائلها رفع الرسوم الجمركية ووضع الكوتا على الاستيراد وخفض سعر العملة بين الدول الأوروبية. علماً أن اتباع إدارة ترامب سياسة رفع الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم واستهداف الصين برسوم تبلغ 60 مليار دولار، لن تؤدي، بحد ذاتها، إلى حرب تجارية، ولا سيما إذا قرر الأوروبيون والصين الشعبية عدم الرد بشكل ضخم على الإجراءات الأميركية (وقد ردت الصين جزئياً)، وهنا يكمن رهان ترامب، وعندها تربح الولايات المتحدة وتحدث أضراراً لهذه الدول، ولكن يبقى العالم بمنأى عن التدمير. أما إذا حصل الرد بفعالية، يخسر العالم.
إن رهان ترامب أيضاً يكمن في أن الإجراءات الحمائية ستؤدي إلى تحسن في الاقتصاد الأميركي، عبر زيادة الطلب الداخلي على المنتجات الأميركية، كما ستؤدي إلى زيادة التوظيف للعمال الأميركيين، وهذا ما كان قد وعد به خلال حملته الانتخابية، التي جذبت قطاعات واسعة من الطبقة العاملة الأميركية إلى صفوف الحزب الجمهوري. كذلك إن رهانه أن الصين لن ترد بقسوة عليه، ما يجعله يربح على جميع الجبهات. فالاقتصاد الأميركي يعاني من حالة ركود طويلة الأمد، كما يواجه منافسة شديدة على المستوى العالمي. في هذا الإطار، على الرغم من تشاؤم الأصوليين الليبراليين المؤيدين للتجارة الحرة، فإن حلّ ترامب هذا سيكون له حظوظ كبيرة في النجاح، إذ إن هذه الإجراءات ستؤدي إلى حل، وإن كان جزئياً ومؤقتاً، لهذه المعضلات جميعاً. الحل سيكون جزئياً، لأنه إن أدى إلى زيادة في التوظيف، إلا أنه لن يحل مشكلة الأجور المتدنية للعمال الأميركيين، التي أعلنت نهاية الطبقة الوسطى ونهاية الحلم الأميركي. إلا أن ترامب لا يكترث بذلك، فهو أعلن في دافوس أن القضاء على الفقر هو عبر «شيك المعاش» أو الـ paycheck، ما يعكس نظرته الدونية إلى العمال وإلى حال أميركا اليوم. فيكفي إعطاء العمال وظائف مهما كانت، وليس الهدف استعادة موقع الطبقة العاملة الأميركية، التي خسرته بعد أكثر من ثلاثين عاماً من هجوم الرأسمال المستمر حتى الآن. فإدارة ترامب فعلاً زادت من وتيرة هذا الهجوم عبر سياساتها الضرائبية الأخيرة، التي اعتبرها الكثيرون «حرباً طبقية» مفتوحة لمصلحة الأثرياء والرأسمال الأميركي.
رهان ترامب على أن الصين لن تردّ بعنف على سياساته الاستفزازية، هو على الأرجح في محله


في الوقت نفسه، لن تؤدي الإجراءات هذه إلى حل المعضلة الكبرى، التي تواجه الاقتصاد الأميركي، ألا وهي ظهور بوادر منافسة حقيقية من قبل الصين للولايات المتحدة في التكنولوجيا العالية. وهنا لا يزال بعض المحللين الأميركيين وغيرهم يخطئون في النظرة إلى الصين. ففي مقال حول إجراءات ترامب، يقول الاقتصادي الأميركي الشهير مارتن فيلدشتاين إنّ على الولايات المتحدة أن تستخدم هذه التعريفات والتهديدات كأداة ضغط على الصين، من أجل أن تُوقف ما سمّاه نقل التكنولوجيا «طوعياً» (أي عبر الابتزاز) من الشركات الأميركية التي ترغب في العمل والاستثمار في الصين. ربما ما زال يحصل ذلك، ولكن ما فات فيلدشتاين، أن الصين لم تعد هي الدولة المستوردة أو السارقة للتكنولوجيا الحديثة. إذ إن الصين، وحسب الكثير من المؤشرات، هي الآن الرائدة في الاستثمار والابتكار في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطاقة البديلة ووسائل النقل الكهربائية، وصولاً إلى مجال الحاسوب الكمي (quantum computing). لكن إحدى معضلات نموذج الصين الاقتصادي، التي قد تجعله يتأذى من هذه السياسات الحمائية، هي وجود السعة الزائدة في الكثير من الصناعات الصينية (وبالمناسبة في صناعة الصلب تحديداً)، واعتماده على التصدير من أجل تشغيل هذه السعات. عندما زرت الصين الشعبية، كانت الفكرة التي راودتني، أن أخطر ما يواجه هذه الآلة الاقتصادية الضخمة المتحركة باستمرار، هو توقفها أو حتى إبطاء حركتها. فالسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا ستفعل الصين بعد أن تبني الطرقات والمرافئ والمنشآت في الداخل وفي أفريقيا وآسيا وغيرها؟ فكما قال جون ماينارد كينز، في مصر القديمة يمكن بناء أهرامات عدة، ولكن اليوم لا يمكن بناء سكتين للحديد بين لندن ويورك! فمسألة الطلب الكلي تلقي بطيفها دوماً على الاقتصاد الرأسمالي!
من هنا، إن رهان ترامب أن الصين لن تردّ بعنف على سياساته الاستفزازية، هو على الأرجح في محله. فالصين لن تردّ لأسباب عدة، أهمها أنها لا تزال تعتمد كثيراً على التجارة العالمية لتصريف منتجاتها وتشغيل السعة الزائدة لصناعاتها، وبالتالي لا مصلحة لها بتاتاً في وقوع حرب تجارية تؤدي إلى أزمة عالمية كبرى. ومن هنا يمكن فهم وقوف الصين بقوة دفاعاً عن التجارة الحرة والعولمة، كما عبّر عن ذلك الرئيس الصيني شي جين بينغ في خطابه أمام مؤتمر دافوس في عام 2017. ويكفي في هذا الإطار، المقارنة بين خطابي بينغ في 2017 وخطاب ترامب في دافوس في 2018 لاستنباط الفرق الجوهري بين الموقفين اللذين يتجليان اليوم بوضوح. الأول، يعكس اقتصاد سوق اشتراكي منفتح مُدار بعقلية علمية ماركسية ترى في التجارة الحرة والعولمة المسار الحتمي لتطور الرأسمالية؛ والثاني يعكس اقتصاداً رأسمالياً في أزمة مدار بعقلية قومية اقتصادية تلعب بالنار الشعبوية.
وهنا قد يربح ترامب وتربح أميركا في المدى القصير، إلا أن الحل لأزمة الرأسمالية الأميركية لا يمكن أن يكون عبر اتباع هذا الطريق، الذي سيزيد من حالة عدم اليقين التي تسيطر على الاقتصاد الأميركي وعلى مستقبله. في هذا الإطار، لفتني منذ يومين، إعلان عن مؤتمر لمؤسسة أميركية سيعقد حول «أميركا 2050»، وهو يدعو الباحثين إلى تقديم أبحاثهم ورؤاهم حول ما ستكون عليه أميركا آنذاك، خصوصاً على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أعتقد أنه سيكون هناك الكثير من الأسئلة والقليل من الأجوبة، ومرحلة ترامب ستزيد من هذا الضياع الأميركي. في الصين في المقابل، كانت مقررات المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في الخريف الماضي واضحة: في عام 2020 ستكون الصين بنت مجتمعاً معتدل الازدهار، وفي عام 2050 ستكون الصين بنت مجتمعاً اشتراكياً عصرياً. في هذا الفارق الشاسع بين ما سيكونان عليه في المستقبل الاقتصادان الأكبر في العالم اليوم، يكمن المحدد النهائي لأي نظام اقتصادي ستكون الغلبة في النهاية؛ وحتى لو كان رهان ترامب مؤقتاً هو الفائز، وحتى لو ذهب ترامب ومن بعده إلى أبعد من ذلك: أي إطلاق الحرب التجارية في أبشع تطبيق لـ«عليّ وعلى أعدائي»، فإن التاريخ سيكون قد حكم لمصلحة الاشتراكية، وليس لمصلحة البربرية الآتية من أحلام، بل من كوابيس الشعبوية اليمينية التي تؤرق عالمنا اليوم.