القاهرة | المفارقة التي فجّرتها المدونة علياء المهدي أنّ تعرّيها على مدونتها الخاصة «مذكرات ثائرة» كان كابوساً أسوأ بكثير لليبراليين منه للمحافظين. إنه اليوم الذي تمنى كل مدافع عربي عن حرية التعبير ألا يأتي أبداً، فهي الحالة التي لا يمكن أن يتضامن معها سوى بالخروج الكامل من دائرة التواطؤ الاجتماعي.
مصرياً، بدا كأن علياء كسرت الضلع الثالث المتبقي من التابو: بعد الدين (المدوّن كريم عامر وازدراء الدين الإسلامي)، والسياسة (المدوّن مايكل نبيل ورفض التجنيد الإجباري)، يأتي الجنس (صورة عارية وحزينة للمدونة الشابة).
قضى عامر أربع سنوات في السجن في مدينته الإسكندرية، ويقضي نبيل ثلاث سنوات بحكم القضاء العسكري. أما علياء، فقد تقدّم أعضاء ما يسمى «الائتلاف العام لخريجي الحقوق والشريعة» ببلاغ إلى النائب العام، يطالبون بتطبيق الحد الشرعي عليها. القانون المصري لا يطبّق الحدود الشرعية، لكنّه يدين ازدراء الأديان، ومن ثم ليس مستبعداً أن تواجه علياء (20 عاماً) مصيراً مماثلاً لمصير كريم ومايكل.
علياء ـــ تماماً كرفيقيها ـــ وضعت النشطاء والمثقفين في المأزق الأسوأ وحصرتهم بين خيارين: التخلي عنها، أو التخلي عن شعرة معاوية بين «هم» و«المجتمع». لا يمكن المثقف هنا أن يدافع ـــ مثلاً ـــ عن حق علياء في اختيار ملابسها، إذ ليس ثمة ملابس على الإطلاق، تماماً كما لم يتمكن المثقف من الدفاع عن حق كريم في «نقد» الإسلاميين، إذ إنه انتقد الإسلام نفسه. أما مايكل نبيل فعكس تابو السياسة من جميع زواياه: أسّس حملة لمناهضة التجنيد الإجباري، وهاجم المجلس العسكري في وقت باكر جداً بعد تنحّي مبارك. مَن يمكن هنا أن يدافع عن «مهاجم للجيش» أو عن «مزدر للدين الإسلامي»، ثم أخيراً عن «متعرّية»؟
بمنطق مهني على الأقل، يبقى الحقوقيون جاهزين للدفاع دائماً، وللخسارة دائماً في تلك القضايا. لكن سؤال الثقافة والمجتمع لا يتكرر مع كل مدوّن يدخل السجن. قبل سنوات، كان التضامن مع كريم عامر شبه معدوم. ثم كان التضامن مع مايكل ـــ المسجون بعد الثورة ـــ أقوى وأوضح، أسهم فيه إضراب المدوّن عن الطعام داخل السجن. أما علياء، فحصلت على الاهتمام الإعلامي الأكبر، وأطلقت سهام الأسئلة في كل الاتجاهات بين محافظين وليبراليين. المحافظون صدمهم الدخول المليوني على صورتها العارية في مدونتها، وهو دخول مستبق باكتمال الإرادة إزاء «خطيئة» الفرجة، لأن علياء وضعت تحذيراً من محتوى المدونة لا بد من الضغط عليه حتى يعبر الزائر إلى الصور، لا مصادفة هنا إذاً ولا «اعتداء على حرية المتصفح» ولا خدش حياء. الليبراليون وجدوا أنفسهم أمام لحظة الحقيقة: هل يمكن الدفاع في مجتمعنا، وفي اللحظة الآنية، عن حرية التعبير في صورتها المطلقة: اكتمال التمرد باكتمال العري؟ هل نجازف بما بين أيدينا من هامش حريات في معركة «لا تستحق»؟ أم نسلّم بضوابط هي ساحة الإسلاميين؟
زاد من أزمة المثقفين أنّ علياء ابنة الجيل الشاب، تبدو بملامحها ولغتها الغاضبة ووجهها الطفولي ابنة ميدان التحرير بمعناه وجوهره وأرصفته الواسعة. قد تستطيع منظمة مثل «6 أبريل» أن تنفي عضوية المدونة الشابة فيها. لكن الثورة بمعناها الأشمل لا تستطيع التنصل من علياء. وربما كان هذا سر قلق النشطاء العلمانيين، إذ يعرفون أنّ علياء واحدة منهم. ويتضاعف المأزق إذا انتقلت الأزمة من مجرد جدل على الإنترنت إلى خطر التعرض للسجن. ما العمل إذا قدمت علياء للمحاكمة؟ هل «نتضامن»؟ وكيف؟ رغم التمرد المنفلت لكل من كريم ومايكل، ظلت إمكانية لربط كتاباتهما المطوّلة بقضية حرية التعبير، لكن صورة علياء ـــ كأي صورة ـــ لا تكذب. إنها قوة الفوتوغرافيا، مثل كلمة لا يمكن سحبها.
كتشبيه غير مكتمل، يمكن تذكر هنا إغلاق جريدة «الدستور» مرتين؛ مرة بقرار مباشر ومرة بالتحايل على التجربة. المرة الأخيرة صوحبت بإغلاق عدد من البرامج والقنوات، ما أدى إلى انخفاض السقف السياسي للصحف والبرامج التي لم تُغلق. أي إنّ الحرية المنفلتة التي تتحمّل سهام النقد من الجميع (كالمدونين الثلاثة)، هي التي توفر البيئة الآمنة للأسقف الأدنى. ليست علياء ولا كريم أو عامر نماذج متمردة بلا معنى. نظرة إلى مدوناتهم تكشف عن مواقف متّسقة. هم يملكون موقفاً نقدياً من الدين والسلطة الأبوية، ويتعاطفون مع الأقليات.
قضاء وقت في قراءة مئات التعليقات على صور علياء، يكشف «الغاضبين» أكثر مما يكشفها. يمكن توقع مساحة النقد الأخلاقي والنصح الديني وتوجيه الاتهام لما قدمته بعنوان «فن عاري» بأنه ليس فناً بل محض عري، لكن تبقى تعليقات لا يمكن توقعها، مثل: «ما هذا، هل تظنين نفسك جميلة؟!».