أنا من الذين بدأوا طريق المسرح مع فرنسوا أيام عز فرقة «الحكواتي» في الثمانينيات. وحدث أن عشنا معه بعدها سنوات من المسرح ومن اليأس أيضاً. أول لقاء معه كان في القدس، وكنّا على أبواب عيد الفطر، وكان «مسرح الحكواتي» بيتنا (الذي منع فرنسوا لاحقاً من دخوله إلا بأجرة مماثلة لما تدفعه القنصليات الأجنبية). وزّع علينا يومذاك برنامج المراجعات، واكتشفت أنّه وضع لنا يوم عمل في أول أيام عيد الفطر.
كنت وقتها ولداً هاوياً للمسرح، أنضم إلى الفرقة. لم أجرؤ على سؤاله إن كان هناك خطأ في البرنامج. بيتي كان قريباً من المسرح، وفي صباح أول أيام العيد طرت إلى الحكواتي، فوجدت فرنسوا منهمكاً في إعداد بعض المشاهد الارتجالية التي اعتادها لبناء أفكاره المسرحية. وقال لي: «كل سنة وانت سالم»، وتابع انهماكه.
كنت شديد الإعجاب بحبّه للمسرح حتى أدق التفاصيل. كان يصمم ديكوراته وإضاءته. يعطي الملاحظات. يرى أنّ المسرحية مولود جديد للعالم، يكبر وينضج من خلال العروض. آخر عرض لمسرحياتنا كان يختلف حتماً عن العرض الذي سبقه. في عام 1986، كانت بداية المؤامرة على فرنسوا لإخراجه من بيته وبيتنا «مسرح الحكواتي». خرج منه وقال لي: «سوف أبحث عن رأس جبل، وأعمل وإياك مسرحاً هناك. قلت له لا، أحببت هذا البيت، وسوف أظل هنا. لم أكن أعي في ذلك الوقت أنّ هناك من يعمل في الظلام لإخراجنا من نور المسرح.
فرنسوا لم يكن مستعداً لمعاركة تجار الثقافة، بل كان دونكيشوتاً لا يقوى إلا على معارك المسرح، لا على معارك الانتهازيين. هم لم يصنعوا الحياة كفرنسوا، بل صنعوا الخراب وأكملوا حربهم حتى يومنا هذا. فرنسوا أبو سالم تعرض للإقصاء والطرد من مسرحه (سمّوه جزافاً «المسرح الوطني الفلسطيني») الذي أسّسه بيديه وأيدي المؤمنين بالمسرح من رفاقه.
أجزم بأنّهم قتلوه منذ ما يقارب عشرين عاماً. لكنّه بقي يعاند ويقاوم حتى عاد ولم يكرّم، بل صعقوا من عودته حيث أنّهم اعتبروه ميتاً. لكن كيف لهم أن يعرفوا أنّ حب البقاء لدى فرنسوا كان يستمده من حب المسرح الذي يمنح الحياة للإنسان لا للشيطان؟ حين قررت إدارة مسرح «الرواة» عرض مسرحية «أبو حليمة»، تعرّضنا للحرب نفسها. أغلقوا الحكواتي، وهربوا، وجمهورنا ينتظر على أبواب المسرح. هاتفني فرنسوا وقال لي: «أنا معك وسنعود إلى مسرحنا وبيتنا»، بعدما عاثوا فيه خراباً وهجّروا كل الفنانين من أروقته. ووعدته بأنّنا سننتصر عليهم بإيماننا بحتمية المسرح في التغيير. أولئك الغربان الذين لم يفهموا أن المسرح ليس بحجارته الصماء بل بنا نحن صنّاع المسرح.
ستشتاق إليك خشبة الحكواتي و«جنبتها» التي كنا ننام عليها ليلة افتتاح مسرحية «كفرشمّا». سيشتاق إليك المسرح الفلسطيني الذي نبحث عنه الآن ولا نعثر عليه.
* مسرحي فلسطيني من القدس