ما هي «المشاهد الحميمة»؟ عندما استورد العرب فن السينما، اتفقوا على أن المشاهد الحميمة هي تلك الجنسية. تفاوتت أجهزة الرقابة في تقدير حدود الحميمية في الأفلام، لكنّها اتفقت على أنّ «علاجها» هو الحذف. عندما تناقلت وسائل الإعلام المصرية خبراً منذ أيام مفاده أنّ الرئيس الجديد للتلفزيون المصري سامي الشريف طلب شفهياً حذف المقاطع الحميمة عن شاشة «ماسبيرو»، كان منبع الذهول أنّ تلك المشاهد لم تكن سوى بعض القُبَل والأحضان. ووفق الخبر الذي نشره أولاً موقع «في الفن»، فإن تعليمات شفهية أصدرها سامي الشريف تقضي بتطبيق القرار على جميع المواد الفيلمية، عربيةً كانت أو أجنبية، قديمة أو حديثة. وبعيداً عما تتطلّبه عملية مونتاج الأفلام والمسلسلات من كلفة مادية تزيد من أعباء «ماسبيرو»، فإنّ أهل الفن في مصر فوجئوا بأن الخطر أتاهم من حيث لم يحتسبوا.
صعود التيارات السلفية في مصر ـــــ بعد حلّ جهاز أمن الدولة ــــ بث هواجس الخوف على الفنون والثقافة، وخصوصاً مع وجود تسريبات تؤكد ازياد الرقابة في التلفزيون الرسمي. وبدا القرار الذي نُسب إلى رئيس التلفزيون واحداً من احتمالين: إما تعبيراً عن جناح محافظ في السلطة، أو استباقاً لضغوط «شعبية» متوقعة، بعضها يحرّم الفن برمته، فضلاً عن الفن «الحميمي».
بعد أكثر من 24 ساعة على بث الخبر، نفى سامي الشريف هذه «الشائعة»، مؤكداً أنّ «الأعمال السينمائيَّة القديمة هي بمثابة تراث لا يجوز العبث به». ولفت إلى «أنّ التلفزيون لا يمكن أن يقدم على هذه الخطوة». ولتأكيد النفي، دعا القلقين إلى متابعة الشاشة ليتأكدوا من أنّ «هذا الأمر لم يحدث إطلاقاً».
العبارة الأخيرة هي الأهم في تصريحات الشريف، ليس لأنه يدعو المشاهدين إلى مراقبة القُبَل كي تطمئن قلوبهم، ولا لأنّ القرار، الذي نُسب إليه، لم يدخل حيز التنفيذ بعد، بل هناك سبب آخر أشد خطورةً وأكثر أهمية، هو أنّ مراقبة الشاشة لا يمكن أن تقدم برهاناً قاطعاً على هذا الأمر لسبب بسيط هو أنّ التلفزيون المصري لا يبث «القُبَل» منذ سنوات طويلة، بل إنّ مقص رقيبه يتدخّل منذ عشرات السنين لنزع ما يراه حميمياً. ولا يتوقف الأمر عند حذف عبارة «بوسة ونغمض» الشهيرة من استعراض «الحياة بقى لونها بمبي» لسعاد حسني (فيلم «أميرة حبي أنا»)، ولا حتى حذف الإذاعة المصرية عبارة «قدر أحمق الخطى، سحقت هامتي خطاه» من أغنية «أنت قلبي» لعبد الحليم حافظ، ما سبق ليسا إلا نموذجين بسيطين عن عشرات، وربما مئات الحالات الشبيهة الأقل شهرة. ويمكن المشاهد المصري صيد اللقطات المحذوفة من الأفلام العربية بسبب معرفته بالأصل. أما الأفلام الهوليودية، فحدّث ولا حرج. أحياناً تُحذَف شخصية بكاملها لأنّها مثلية الجنس على سبيل المثال. وقد يكتشف المشاهد أنّ إحدى شخصيات الفيلم الذي شاهده لتوّه كانت يهودية الديانة، لكنّه عرف ذلك من خلال مقال كُتب عن الفيلم، لا من خلال ترجمة الفيلم نفسه.
سياسة الحذف والتقطيع والتشويه بدت في صورة أسوأ مع انطلاق قنوات الأفلام ذات الرأسمال الخليجي، لكن أصلها كان مصرياً بلا أدنى شك. ومع الوقت، تجرأت بعض تلك القنوات العربية على بث مقاطع لا يبثها التلفزيون المصري، إما لأسباب «أخلاقية» أو حتى سياسية، مع ذلك، يتطلب الإنصاف القول إنّه كانت هناك دوماً مشاهد توحَّد العرب على حذفها، وأشهرها مشهد النهاية في فيلم «البريء» لعاطف الطيب. لكن بالعودة إلى «الحميمية»، كشف الجدل بشأن قُبَل الأفلام حقيقة بائسة مفادها أنّ الأفلام التي سيقدّر لها النجاة من الحذف، هي تلك التي اصطُلح على تسميتها «السينما النظيفة»، علماً بأنها تيار سينمائي مصري، جمع بين شرطين: التفاهة، ومداعبة المزاج الحافظ للجمهور المصري في حقبة التسعينيات.
لكن هناك حذف آخر أتى «من المنبع» بلغة الاقتصاديين. لقد أدى دخول رأس المال الخليجي سوق الدراما اللتفزيونية إلى ازدهار تلك السوق، وتضخّم أجور النجوم، لكنه أدى أيضاً إلى التأثير في كتّاب الدراما. لكي يشتري التلفزيون الخليجي مسلسلاً ما، عليه أن يناسب تقاليد الميديا الخليجية، وعلى رأسها منع الأحضان والقُبَل ولو كانت بين رجل وأمّه. هكذا ظهر إلى الوجود نمط لا مثيل له من «الدراما»، حيث الزوجة تنام إلى جوار زوجها بملابسها الكاملة، وحيث يلتقي الرجل حبيبته بعد غياب عشرين عاماً، فلا يمسك يدها، ويخرج السجين من سجنه الطويل فيحيّي أخته من على بعد! الثورة قد تغيّر النظام السياسي في 18 يوماً، لكنها تستغرق وقتاً أطول بكثير لتغيير الثقافة، هذا ما يدركه الآن فنانو المحروسة.



مسرح «نظيف»!

بينما كان الكل يناقش القرار الذي نُسب إلى سامي الشريف، كان المسرحيون يتناقلون تصريحات محمد السيد علي وهو المدير الجديد لـ «البيت الفني للمسرح» التابع لوزارة الثقافة، إذ أكّد استمرار الرقابة على المسرح لمنع «الإباحية والعري» لدى بعض الفرق المستقلة! ومن نافل القول إنّ أكثر الفرق المصرية تحرراً لا تجرؤ على تقديم عرض عارٍ. لذا، استقبل المسرحيون تصريحات السيد علي في سياق تراجع دعم الفرق المستقلة، ووجدوا أن قراره باستخدام طريقة «الكونترول» في استقبال النصوص المسرحية (تقديمها من دون أسماء أصحابها) قبل الموافقة على إنتاجها، هو طريقة جديدة للرقابة، لا أسلوب للقضاء على الواسطة كما أعلن.