تجنُّب ما هو نموذجي ومتقن وجمالي محض، تلك هي الممارسة الأثيرة في فن سمير خداج. التجنب هو أحد الخلاصات الأساسية التي نهتدي إليها في معرضه الضخم الذي يضم مراحل مختلفة من مدوّنته التشكيلية. أكثر من مئتي عمل يفضّل خداج أن يراها مساراً (Parcours)، لا استعادة لمسيرته كلها. يتجنب الرسام اللبناني النموذج، كي يصنع «نماذجه» المرنة والمنفتحة، والقائمة على استثمار اتجاهات كثيرة وهضمها في أعماله.
ويتفادى الإتقان لمصلحة نوع متعمد من الرسم غير الآبه بإنجاز لوحة، أو عمل فني مستتب في قياساته ومعاييره. أما الجماليات المحضة فهي مبعدة بحكم الصفتين السابقتين. إذْ إن عملاً يكسر النموذج، ويزدري الإتقان، ويُفسد عملية التلقي التقليدية، لا بدّ من أن تجد الجماليات المحضة صعوبةً كبيرة في التسلل إليه.
يدعونا خداج إلى معارض داخل معرضه الحالي. المساحة الواسعة لـ«مركز بيروت للمعارض» تمنح كل قسم استقلاليته الجزئية، لكنها لا تقطع صلات الأقسام بعضها بالبعض الآخر. المشاهد يتجول في مراحل مختلفة من سيرة الرسام اللبناني الذي يقف على حدة فوق خريطة التشكيل اللبنانية والعربية. التفرّد هنا هو حصيلة خلط الأفكار بالمنجز الفني. اللوحات تقول للمتلقي فكرةً أو خلاصة فلسفية، أكثر من كونها مساحات للاسترخاء والتأمل في عناصر ومكونات لونية. اللون هو أول ما يُنكَّل به، أو يُهمَّش في شغل خداج الميال إلى التركيب والتلطيخ والتشويه. هناك سعي دائم إلى إظهار قبح العالم ودمامة كائناته والرعب الذي كُتب عليهم أن يعيشوه منذ الولادة.
يبدأ المعرض بأربع جداريات من معرضه في مونتريال (1992)، تُرينا أن خداج بدأ مبكراً بكسر مبدأ اللوحة واللعب بنقائها. السطوح اللونية منتكهة بقطع خشبية وزجاجية وطينية ومعدنية. الأجسام الدخيلة تهجِّن اللوحات، وتُرينا شحنة العنف كما تتلقاها من مزاج صاحبها الذي سيطوِّر نواة التركيب البدائية هذه، في أعمالٍ تجهيزية ضخمة كما فعل في ترجمته الرهيبة لمأدبة بترونيوس الفاجرة Satyricon في مبنى «سيتي سنتر» وسط بيروت (2003)، أو مزجه للتجهيز بالفيديو في معرض «برج بابل» (2006) الذي ملأ أربعة فضاءات بيروتية مختلفة.
التهجين والرؤى الكابوسية والمزاج الغريزي والأنتي ــــ جماليات... مذاقاتٌ حادة تستمر في الأقسام التالية من المعرض. سنشاهد أعمالاً مواربة عن الحرب، تسيلُ ألوان الإكريليك من لطخاتها على قماشٍ جُعِّد كي يُظهر أبنية مبقورة، وأنقاضاً يشهد عليها ضحايا بلا ملامح. ثم نجد أنفسنا أمام 40 لوحة بورتريه بقياس واحد، يتأملنا أصحابها بنظراتهم الموحشة والسوداوية وملامحهم المنجزة بمشحات لونية شاحبة وممسوخة، تذكرنا بأجواء جيروم بوش وفان غوغ ومُنش... لكنها محوّرة هنا لتخدم فكرة خداج الشخصية عن فن البورتريه. في قسم آخر، يحضر مجدداً حرص الرسام على أن تكون لوحته غير متقنة وغير نظيفة. في تلك الأعمال تتضاءل آدمية الشخوص، وتُمحى ملامحهم لمصلحة عناصر وأشكال هندسية، وخلاءات معمارية، تطير أشباحٌ في جنباتها، وتتكرر فيها كلمات وتواريخ وأيام بالعربية واللاتينية. كلمات أخرى نابية تظهر إلى جوار ثلاث نساء بمذاقٍ كيتشي مبتذل. الكلمات تختفي في لوحة بعنوان Far From Beirut تعود إلى 1992، ويرسم فيها خداج درجاً يُلصق به درابزيناً خشبياً وينثر عليه حصى وشظايا زجاج. كأن اللوحة ترجمة لحنين الفنان الذي غادر إلى باريس، ليتفجّر هناك مخزون الجمالي والفكري والإنساني لتجربته.
رغم أهميته، لا يأتي الموضوع أولاً في شغل خداج. المفاتيح الأساسية موجودة في الأسلوب والمزاج الذي سرعان ما يقع المتلقي في أسره. قوة الرسام وخصوصية نبرته تتجليان في المناخات والأفكار. لقد سبق لنا أن وقعنا تحت نفوذ هذه النبرة في معارض متباعدة زمنياً، وها نحن نستعيدها كلّها دفعة واحدة.



«مسار» حتى 12 آذار (مارس) المقبل ـــ «مركز بيروت للمعارض» ــ للاستعلام: 01/980650




حفلة دموية

إلى جوار الرسم، ثمة مساحة لتجهيزٍ كابوسي يذكرنا بالمناخات المشهدية في شغل خداج. «مانوكانات» مبتورة الأطراف والرؤوس مبعثرة على الأرض. طاولة عليها زجاجات وكؤوس مقلوبة، بينما سترات ملوثة بالطين تلطخ الأجساد. كأننا شهود على حفلة دموية انتهى منها القتلة قبل دخولنا بقليل. المنظر مرعب، لكنّ خداج يُرينا جمالاً مضاداً ومنتشياً في هذا الرعب الذي يذكرنا بعبارة ريلكه «كل جمالٍ مرعب».