قلقة وخصبة ذكريات السيد هاني فحص. في كتابه «مقيمون في الذاكرة» (دار المدى ـــ 2012)، يستدعي صاحب «الهوية الثقافية» تسعة عشر شخصاً من رجال الفكر والسياسة والدين. في العمل الذي قدّم له الصحافي والباحث صقر أبو فخر، لا يكتفي فحص بسرد الجانب المشترك بينه وبين هؤلاء، بل يذهب أبعد من ذلك. يخرجهم من أطرهم المعروفة لدى القارئ، ويقدمهم من جديد. كذلك يعيد طرح أفكارهم من وجهة نظره، المختلفة أحياناً عن السائد. في الجزء الثالث من مذكراته، يسعى فحص إلى تقديم رؤية حميمة لأصدقائه. بعضهم عرفهم شخصياً، وآخرون لم يتعرف بهم، إنما يستحضرهم ليطلعهم على أسراره. تبدو هذه الرؤية متقطّعة أحياناً، فتنتقل بالقارئ من حال إلى حال.
ورغم أنّ صاحب «الشيعة والدولة في لبنان» لم يزودنا بما يكفي من المحطات التي خاض تجربتها مع هؤلاء المقيمين في ذاكرته، إلا أنّ لهذا «البخل المعرفي» مبرراته. ربما لم يرد كشف المزيد من الأسرار عن مكونات شخصياته، فآثر الاحتفاظ بها منعاً للتصادم.
ياسر عرفات، والإمام الخميني، ورفيق الحريري، وخليل الوزير، وكمال جنبلاط، وعباس بيضون، والإمام موسى الصدر، وحسين علي منتظري، والسيد محمد خاتمي، وجورج حاوي، والسيد محمد حسين فضل الله، والمطران جورج خضر، وعادل عسيران، وجعفر شرف الدين، وحسين مروة، وغسان تويني، وشكيب أرسلان، وأنطون سعادة، ومصطفى عز الدين. هذه القامات السياسية والفكرية والدينية، شكّلت مدار بحث السيد هاني فحص عن ماضيه وغده العابق بالأسئلة. يستنهض الكاتب ملامح هذه الشخصيات في نصّه المتوتر بدءاً من السطر الأول. هذا التوتر ـــ كما يؤكّد فحص ـــ «لا يرويه سوى الحبر». إشكاليّة التعدّد تحضر بقوة في نصه. ولعلّ هذا الاستحضار التاريخي لتلك الشخصيات الآتية من منابع إيديولوجية ومكانية مختلفة، تبرهن على تعدديّة فحص المسكون بالقلق المعرفي. ثمّة خاصيّة هامّة يمكن كشفها في كتابه الثالث من سلسلة ذكرياته: الشحّ في المعلومات، وخصوصاً حينما نقارن ما أدلى به هنا بـ«ذكريات ومكوّنات عراقية» و«ماضٍ لا يمضي»، اللذين كان فيهما شديد الالتصاق بالذاكرة الذاتية والجماعية وحمل آمال جيل كامل من الجنوبيين وسواهم، بأحلامه وانكساراته.
لا يزودنا صاحب «الهوية الثقافية» بتفاصيل كثيرة؛ لأنّ الذاكرة السياسية قد لا تسمح له بإضفاء المزيد من الوهج على أولئك الذين استحضرهم ليعيش معهم من جديد. تشترك سيَرُ الشخصيات، الخاصة منها والعامة، بقاسم واحد: ثقل الهم السياسي والمشروع الفكري. ورغم غلبة القيادات السياسية على مفاصل الكتاب، إلا أنّ حديثه عن المعمّمين والمفكرين، أجمل وأنقى، ولا سيما حين يلاقي صديقه المطران جورج خضر، الذي أبدع في الكتابة عنه، وعن العلاّمة منتظري وغسان تويني وعباس بيضون. بين فصول الكتاب، لامس فحص تعرجات ذاكرته ومستقبله الذي حلم به مع تلك الشخصيات. حاول قدر المستطاع نبش بعض التفاصيل من دون أن يصل بنا إلى المشتهى. في «ماضٍ لا يمضي» كان أول رجل دين يطل على زوجته من صفحات كتاب تقرأه «العامّة». تحت مسمّى «أم حسن» أو «الزوجة بيتاً»، أشار إلى وجود سيدة وزوجة وأم وناقدة، لكن بصفة الغائب. لم يؤرخ فحص لنفسه، بل صوّر لنا بانوراما موجزة يتداخل فيها الذاتي مع العام، والخاص مع المشترك. لهذا، لا تجد في بعض السير التي كتب عنها سوى ملامح لتجربة خاضها من دون أن يكثّف حضوره معها، كما لو أنّه أراد تسليط الضوء عليها، لا على ذاكرته معها.
تقصّد صاحب «الحوار في فضاء التوحيد والوحدة» إخفاء المعنى ليغري القارئ بالتأويل والتخمين، ونجح في ذلك. لم يهدف إلى نبش الذاكرة السياسية فحسب، بل أعاد طرح أفكار الشخصيات. وبدا هذا النهج واضحاً حين عاد إلى السيد فضل الله وإلى الإمامين منتظري والصدر وإلى كمال جنبلاط. فحص المسكون بأسئلة الغد، رغم أنّ الماضي يريحه أكثر، لم يتوان عن توجيه رسائل خفية إلى من كتب عنهم. يتضح هذا الأسلوب عندما أجرى مقارنة بين كمال ووليد جنبلاط، لكنّه مع ذلك لا يصل إلى لحظة تحديد الملامح بين العقل وضده، كما يقول الموحدون الدروز. القسم الأكبر من الشخصيات الماثلة في ذاكرة فحص، اغتيلت بالمعنيين الرمزي والمادي. وكان من المهمّ أن يستفيض صاحب «ملاحظات في المنهج» في قراءة الأسباب التي دفعت الخميني إلى عزل منتظري. وكان من المهم أيضاً الإضاءة بنحو أوسع على علاقته الفكرية مع السيد فضل الله «إمام الفقراء» كما يسميه.
فحص، الشيوعي بفطرته على شاكلة العلّامة عبد الله العلايلي الاشتراكي بإسلامه، لم تكن تحولاته الفكرية مفاجئة، وقد لمّح إلى ذلك في أكثر من موضع في كتابه. هو الآن في موقع الوسطية، وليس بمقدوره مغادرتها، لأنّها دخلت في شرايينه بعد مخاض طويل. عاد صاحب «خطاب القلب» إلى أنطون سعادة بغية «تحريره» من حزبه. وخلال سرده عن مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، يعود إلى الإمام جمال الدين الأفغاني، داعية التعددية الذي حيّر الناس في مذهبه. وهنا يعلن فحص قربه من هذه الشخصية، فتمنى لو أطل عليها مبكراً، ولو أنه حيّر الناس في مذهبه أيضاً...
نصّ هاني فحص إيقاعي ومتوتر ومتقطع. هذا النهج أسبغ على الكتاب جمالية أدبية، رغم أنّه قد يفقد السرد نهاياته. الذاتية ليس لها حضور كثيف في مذكرات هاني السياسية، وعلى وقع ثنائية الفصل بين الذاتي والحدثي، سعى إلى تركيب سير شخصيات فاعلة في التاريخ (السياسي والثقافي والديني). لكننا كنا نتوقع منه أن يقدم مزيداً من التفاصيل عن الوجوه التي عاصرها واستحضرها، وخصوصاً أنه بهويته ذات الملامح التعددية الواضحة، كان في إمكانه الذهاب أبعد من المعلومات التي كشف عنها. إلّا أنه فضّل منهج التورية، ما جعل نصه مفتوحاً على الفرضيات التي يطرحها قارئ الكتاب، ولا شكّ في أنّه تعمد هذا الأسلوب.
مذكرات السيد في جزئها الثالث تعبق بالأسئلة السياسية والمعرفية، لكنّها تضع هذا الجيل أمام مآزق فشل التجارب أو إجهاضها. والأهم من التجارب نفسها أن ذاكرة الأمكنة والجيل الجنوبي الذي استفاض في سرد حيواته في الجزء الثاني من مذكراته، أبهى لأنّها أتت من عرق الفقراء ومن ذلك القلق الشيعي الذي لا يستكين.