قال لي هاني: «كلهن على بعضهن عشر صفحات ولوه، بدها بيتر بروك الشغلة؟!».
في ذلك الوقت (2012)، كانت الثورة السورية لا تزال ثورةً، والنقاش حول دور المثقف وعلاقته بما يجري لا يزال مطروحاً على الطاولة، والصفحات العشر التي يتحدث هاني عنها هي فصل من مسرحية «بينجو» لإدوارد بوند يطلب فيها بن جونسون من زميله وليم شكسبير الذي اعتزل الكتابة في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، أن يكتب، أي أن يفعل، ألا يكون سلبياً. قرر هاني أن أخرج أنا المسرحية، فيما لعب هو دور جونسون ولعب مؤيد دور شكسبير. وهكذا أصبحت مخرجاً مسرحياً في لمحة عين، معززاً موقعي الجديد بألفاظ مثل: الذاكرة الانفعالية، باربا، الميزانسين، وبعرض مسرحي واحد قدمناه وقتها في مكان عام/ خاص، هو بار في دمشق القديمة، وبنعمة وفضل من الله فشل العرض فشلاً ذريعاً في الشكل والمضمون.
اللجوء بات يشبه شهادة التوفل أو الدكتوراه

لكن هذا العرض الفاشل كان ثورتي (وأقولها من دون أي تواضع)، ففي بلد تحتاج فيه إلى موافقة أمنية لتجتمع بشخصين، وفي العاصمة العتيقة دمشق، قدمنا عرضاً لعشر ليالٍ متتالية رغم رفض مديرية المسارح والموسيقى الموافقة على النص، فما بالك على العرض، إذ اشترط الرقيب إيضاح موقف الشخصيات من الواقع، وهي صيغة مبطنة للقول: على الشخصيات أن تعلن ولاءها للسيد الرئيس ولنظام الحكم. وهو ما رفضت الشخصيات إعلانه.
بعد ذلك بسنتين، غادرتُ سوريا إلى لبنان وأنا أحمل ألقاباً عدة: كاتب مسرحي، مخرج مسرحي، ممثل، دراماتورج... وفي لبنان ألحقتُ بألقابي لقبَ لاجئ، أقرب الألقاب إلى جيبي، إذ لم يعد من ممول أو مانح أو منظمة تُعنى بالشأن الثقافي إلا ودبّجت مطلع عروضها التمويلية بشرط هو أن تكون لاجئاً سورياً في دول الجوار، وأن يكون المشروع قيد التمويل لاجئاً، ومشيته لاجئة وأمه لاجئة. اللجوء بات يشبه شهادة التوفل أو الدكتوراه. ولأنني ذو أنفة شامخ الرأس، رفضت طلب التمويل من الجهات التي تشترط ذلك الشرط. ذو أنفة وشامخ الرأس وعندي منحة بعشرة آلاف دولار من «الصندوق العربي للثقافة والفنون» وافقوا على تقديمها لي قبل عام من مغادرتي دمشق، واستخدمتها لإنتاج أول عرض مسرحي من إخراجي في بيروت، كان عنوانه «تفصيل صغير» عن مسرحية «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» للإسباني أنتونيو بويرو بييخو. كان هذا العرض فرصة للاكتشاف، إذ اكتشفت مثلاً أن بيروت مثل دمشق تحتاج فيها لموافقة الأمن العام على ما تقدمه. في دمشق كنت تدفع 25 ليرة (نصف دولار يومها) للرقيب كي يراقبك، لكن من النادر أن يقبل الرقيب بما تقدمه له، فيما تدفع 150 دولاراً في بيروت، وغالباً ما يوافق لك الرقيب على ما تريد تقديمه. اكتشفت أيضاً أصدقاء من المسرحيين اللبنانيين فتحوا أيديهم وقلوبهم وقدموا كل عون ممكن، وهم النسغ الذي غذاني شجاعةً كي أقدم عرضي الثاني تحت عنوان «أوكنو» العام الماضي ممولاً هذه المرة من مؤسسة «مواطنون فنانون» و«اتجاهات ثقافة مستقلة».
في بيروت أيضاً، وبسبب استرخائي النسبي بعد خروجي من دمشق، بدأت الأسئلة تبتسم بسخرية مرة في رأسي: لماذا المسرح؟ ما معنى المسرح أمام ما نمر به؟ هل يستحق هذا الشيخ الذي تجاوز عمره الألفين وخمسمئة عام أن يستمر؟ هل أنا مسرحي حقاً؟ أين تكون المبررات موضوعية وأين تكون أنانية؟ وغير ذلك من أسئلة لا أعتقد أن «يوم المسرح العالمي للمسرح».

* مخرج وممثل مسرحي سوري