دمشق | منذ انطلاق الإنتفاضة السوريّة، قدّم «المسرح القومي» عروضاً مسرحية بعيدة عن نبض الشارع والتغيّرات المتسارعة في المجتمع السوري بكلّ أطيافه. قد يكون هذا ما تسبَّب في عزوف جمهور المسرح ـــ القليل نسبياً ـــ عن متابعة هذه التجارب، وتفضيل البقاء في المنزل على زيارة الخشبة... لكنّ المخرج السوري مأمون الخطيب (1969)، كان له رأي مختلف، حين اختار نصّ «كلّهم أبنائي» (1947) لآرثر ميلر (1915 ـــ 2005) كمادّة أولية لعرضه الجديد الذي قدّمه أخيراً على خشبة «مسرح الحمراء» في دمشق. يحتوي النصّ أفكاراً وصراعاتٍ كثيرة، تؤكِّد على أنَّ مفاهيم الإنسانية وحبّ العائلة، لا تنفصل عن حب الوطن، والشعور الوطني. وكما هي العادة في مجمل عروض المسرح السوري المقتبسة، خضع نصّ ميلر الأصلي، إلى عمليّة إعداد، أنجزها هذه المرّة، وزير الثقافة السوري رياض عصمت. دمج عصمت ـــ وهو ناقد ومخرج مسرحي ـــ فصول ميلر الثلاثة في فصل واحد، كتبه باللهجة الشامية العامية الرائجة عربياً بفضل مسلسل «باب الحارة».
كما أعاد ترتيب التسلسل الزمني للأحداث، فنقلها من الحرب العالمية الثانية، إلى حربي العراق وأفغانستان الأخيرتين، في محاولة لعصرنة النص. لكنّ متابع العرض يخرج بانطباع معاكس لما أراده عصمت، إذ بدت شخصيات العرض كأنّها تعود إلى عائلة أميركية هاجرت واستقرّت في حي الصالحية الدمشقي، أو ربما لعائلة دمشقيّة، هاجرت أخيراً إلى شارع برودواي النيويوركي! بدوره، قدّم الخطيب قراءة إخراجيّة، تحايل فيها على الضعف الواضح في الإعداد المسرحي. واستعان لذلك بمجموعة حلول، أوّلها الحفاظ على البنية التراجيديّة للنصّ، الشبيهة إلى حدّ ما ببنية المسرح الإغريقي القديم.
في «كلّهم أبنائي» الشاميّة (إنتاج وزارة الثقافة/ مديرية المسارح والموسيقى/ المسرح القومي) تتلخّص الحكاية بمحاولة جو كيلر (مروان فرحات)، التهرُّب من خطأ اقترفه، عندما زوّد طائرات الجيش الأميركي، بقطع غيار تالفة أنتجها مصنعه، ما أدّى إلى مقتل 21 طياراً. يُحمِّل كيلر المسؤولية لشريكه، فيسجن عوضاً عنه. لكنّ جو يعيش مع زوجته كيت (رائفة أحمد)، وابنه كريس (مؤيد خراط) عذاباتٍ محمومة، نتيجة المصير المجهول للابن الأكبر للعائلة لاري الذي يتبيّن لاحقاً أنّه انتحر بعد معرفته بخطأ والده.
تدور الأحداث خلال 24 ساعة، وتنطلق مع وصول آن (رنا كرم) ابنة الشريك السجين، والخطيبة السابقة للإبن الغائب، بعدما تلقَّت دعوةً من كريس الراغب بالزواج منها. لكنَّ شقيقها الأكبر جورج (أسامة التيناوي) يلحق بها بعد زيارته الأولى لوالده في السجن. زيارة يكتشف خلالها الإبن حقيقة المؤامرة التي أحاكها كيلر للإيقاع بوالده. تمتاز مجمل شخصيات ميلر في هذا النصّ بصراعاتها الداخليّة والخارجيّة، ما منح الممثّلين فرصةً حقيقيّةً للأداء وإبراز طاقاتهم، حتى من شاركوا في أداء الشخصيّات الثانويّة (أيهم الآغا، ندى العبد الله، غسان الدبس، هدى الخطيب). وقد استطاع بعضهم تفهّم طبيعة الشخصية، وقدمها على الخشبة باعتبار أنّ العرض ينتمي إلى المدرسة الواقعية التي استكمل فيها ميلر ما بدأه المسرحي النرويجي هنريك إبسن. تمكّن الخطيب من توظيف طاقات ممثليه، ورسم حركتهم على الخشبة بطريقة إنسيابيّة متقنة، ضمن فضاء وسينوغرافيا مسرحيّة، حدّد معالمها وسام درويش. فضّل هذا الأخير أن يكون الديكور، وعناصر الأكسسوار أمينةً للبيئة الأميركية. ساعده في ذلك مصمِّم الإضاءة بسام حميدي الذي جنح تصميمه نحو الحياديّة التامة، باستثناء بعض الانخفاضات المفاجئة في وتيرة الضوء، أو التغييرات في لون الإضاءة، خصوصاً في اللحظات الدرامية الحاسمة.
بدوره، عرف الخطيب متى يفرض الصمت على ممثليه، ومتى يدفعهم إلى تفجير انفعالاتهم نحو الأقصى، كما هي الحال في المشهد الأخير، عندما تبلغ الذروة الدرامية مداها. هنا، يكتشف الجميع حقيقة انتحار لاري من خلال رسالة احتفظت بها طويلاً خطيبته السابقة. هذه الصدمة لم يحتملها جو كيلر، البطل التراجيدي في العرض، فينهي حياته منتحراً بطلق ناري. وأسوةً بعروض المسرح الإغريقي القديمة، لم نشاهد عملية الانتحار على الخشبة.
لكنّ الإعداد المتسرّع الذي أفرغ النص من محتواه الفكري والإنساني، يحيلنا إلى سؤال ملحّ: هل كان ضرورياً تشويه واحدٍ من أجمل نصوص ميلر المسرحية، عبر التلاعب بتسلسله الزمني، وخصوصاً ما يقدّمه من تعرية للحلم الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل كان سيصعب على المشاهد السوري أن يتعايش مع أحداثه وشخصياته، ولو جاءت من زمن ومكان مختلفين؟ ربما هي حمّى الإعداد المسرحي التي أصابت المسرح السوري، وقد انتقلت عدواها أخيراً إلى رأس الهرم الثقافي...



مسرحيّات عظيمة لأنّها... 


في مجلة «أتلانتك» (نيسان/ أبريل؛ 1956)، كتب آرثر ميلر (الصورة): «كل المسرحيّات التي دعوناها عظيمة، تعالج مظهراً من مشكلة واحدة هي: كيف يتسنى للإنسان أن يجعل من العالم الخارجي مكاناً له، وبأي وسائل يكافح المشاكل التي عليه أن يكافحها ليغيّر هذا العالم ويتغلّب عليها، وما إذا كان يأمل النجاح في خلق جوٍّ من السلام والحب وراحة الضمير، وشعوراً بكيانه وبشرفه، وهو شعورٌ يرتبط في ذهن جميع الناس بالأسرة».