كانت السينما الفرنسيّة غارقة في سباتها بعد الحرب، حين قرّرت حفنة من السينمائيين المشاكسين، معظمهم آتٍ من النقد، صناعة أفلام أكثر شخصية. خرج هؤلاء من الاستوديوات وصوّروا في الشوارع والمقاهي. كتبوا وأخرجوا وعملوا مباشرة مع ممثليهم، ونزعوا الصفة المحايدة عن الكاميرا، واخترعوا أفقاً خاصاً لما عرف بـ«سينما المؤلف». إنّهم مخرجو «الموجة الجديدة»: تروفو، وريفيت، ورينيه، وشابرول، ورومير، وفاردا، وديمي... وطبعاً غودار. غودار (1930) من السينمائيين القلة الذين يجمع المؤرخون على دورهم الحاسم في تغيير مجرى الفنّ السابع. أفلامه كانت مصدر إلهام عدد من المخرجين طوال السنوات الستين الماضية. لقد غيّر صاحب «بيارو المجنون» طريقة الصناعة والتفكير في السينما. من بين جميع الذين عرفناهم عبر «الموجة الجديدة»، لعلّه المخرج الذي قدم أوسع تجربة وأغناها. أعماله التي أنجزها على مرّ الزمن والتحولات الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية، والتطورات التكنولوجية، استطاعت تقديم فكر سينمائي لا مثيل له. لقد خلق لغة مزج فيها أسلوبه الخاص في الصورة والحوارات والمونتاج، ليخلق سينما خاصة جماليّاً وفلسفيّاً، تعيد تشكيل العالم.
ولد غودار في عائلة بورجوازية وبروتستانتية سويسرية. سافر إلى فرنسا لدراسة علم الأعراق البشرية (الإثنولوجيا). ارتياد صالات الحي اللاتيني أخذه إلى الكتابة، وإذا به ناقد فنيّ في «دفاتر السينما» إلى جانب «رفاق» سيصنعون «الموجة الجديدة». في تلك الفترة، انكبّ غودار الشاب على الروايات والفلسفة والموسيقى والأفلام، مكتفياً حسب اعترافاته بمقتطفات من الأعمال في أغلب الأحيان. وفي أفلامه سيستعيد على طريقته الخاصة تلك المراجع المتناثرة، ليخلق معها مشادات حادة ومواجهات. في أفلامه، لا يستعير غودار فقط من الأدب، بل يخلقه، يكتب نصه كما يفعل الكاتب. هكذا بدأ عام 1954 تصوير الأفلام القصيرة، قبل أن يقدّم أول شريط طويل بعنوان «على آخر نفس» (1959) الذي عُدّ ثورة سينمائية. ثم توالت الأفلام وصولاً إلى «ألفافيل» (1965) الذي سيُعرض ضمن تظاهرة «متروبوليس». إنه فيلم مثاليّ لإظهار قدرة غودار على إعادة خلط المفاهيم واستكشاف أساليب جديدة لصناعة الأفلام. هنا يحوّل باريس إلى مدينة مستقبلية وقلقة، ملأى بالعلامات من خلال طريقته في اختيار التفاصيل: كل شيء مألوف، ويصعب التعرف إليه في آن.
بعد ستين عاماً من التأليف السينمائي، يقول غودار في إحدى المقابلات: «ماتت السينما. السينما بالكاد وجدت. حاولت أن أفعل شيئاً، لكنني الآن...»



«ألفافيل»، جان لوك غودار: الأربعاء 25 ك2 (يناير)